المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 7 رمضان 1444هـ
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
نواصل الحديث على ضوء الآيات المباركة من سورة الواقعة، والتي قدمت لنا مشاهد يوم القيامة، والمصير المحتوم الذي يصير إليه كل البشر، والتصنيف الذي يُصنفون به في ساحة المحشر، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى الجزاء، إلى المقر الأبدي، دار القرار (في الجنة، أو في النار).
قرأنا في الآيات المباركة في المحاضرات الماضية، الحديث عن السابقين، وعن أصحاب اليمين، أصحاب الميمنة، وصفهم بهذين الوصفين، وما أعد الله لهم من النعيم العظيم، والتكريم المعنوي الكبير، وبيَّنت الآيات المباركة في آخر ما ذكره القرآن الكريم في هذه الآيات- بشأن أصحاب اليمين- أنهم ثلةٌ، {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ}[الواقعة: 39-40]، يعني: جماعة، جماعة كبيرة من الأمم الماضية، وجماعة كبيرة من أمتنا والعهد المتأخر المتبقي في تاريخ البشرية، منذ بعثة رسول الله، منذ بعثة رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”.
وهذا التعبير في القرآن الكريم: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ}، يلفت نظرنا إلى حقيقةٍ مهمةٍ وخطيرة: هي أن أغلب المجتمع البشري- والعياذ بالله- مصيرهم إلى جهنم، فقط منهم جماعات مصيرها إلى الجنة، لكن الأغلبية الساحقة، مصيرها- والعياذ بالله- إلى جهنم، وهذه حقيقة أكد عليها القرآن الكريم، في آياتٍ متعددة، فجهنم ستمتلئ، {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}[ ص: من الآية85]، الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” قال وهو يخاطب الشيطان: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: الآية85]، وتُبيّن الكثير من الآيات هذه الحقيقة الرهيبة المخيفة جدًا، والتي ينبغي على كل إنسان أن يحذر، أن يحذر ألَّا يكون من ضمن تلك الأغلبية الساحقة، التي تتجه- والعياذ بالله- إلى نار جهنم، أمر خطير جدًا، وأمر مخيف للغاية.
يقول الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ}[الواقعة: الآية41]، هذا هو التصنيف الثالث، وهذه الفئة التي تشمل بقية المجتمع البشري، بعد السابقين وأصحاب اليمين، هم أصحاب الشمال، أصحاب الشؤم، والشقاء، والخسران، نعوذ بالله، أمر رهيب جدًا، وهم الذين يُؤتَون أيضًا كتبهم بشمائلهم، كلٌّ منهم يُؤتى كتابه بشماله، هذا يرمز إلى شقائهم، إلى شؤمهم، إلى خسارتهم، وهم من أوقعوا أنفسهم بأنفسهم، في الشقاء، في الشؤم، في الخسران، والخسران العظيم.
وقوله عنهم: {مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ}، تهويلٌ وتعظيمٌ لسوء حالهم، وعظيم شقائهم، وفظيع عذابهم، وفظيع ما صاروا إليه من الشقاء والعذاب والعياذ بالله، وهو أمرٌ رهيبٌ جدًا، أمرٌ رهيبٌ للغاية. القرآن الكريم بيّن حالهم، ما هم فيه من العذاب النفسي، ما هم فيه من الخوف الشديد، والندم، الخوف الذي يصل بهم إلى درجة أن تطلع قلوبهم إلى حناجرهم، {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}[غافر: من الآية18]، خوف شديد جدًا، تمتلئ قلوبهم بالخوف والرعب الشديد، تنتفخ رئاتهم، فتزحم قلوبهم، وتطلع بها إلى الأعلى، حتى تصل إلى قرب الحناجر، {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}، خوف شديد جدًا، وندم شديد، وتحسُّر شديد جدًا؛ لأنهم يدركون أنه كان بإمكانهم العمل لما ينجيهم مما وصلوا إليه، ويدركون أنهم هم باستهتارهم، بغفلتهم، بإعراضهم، بجرأتهم، من أوصلوا أنفسهم إلى ما وصلت إليه.
في مواقف الحساب يوم القيامة، من موقفٍ إلى موقف، يزداد رعبهم، خوفهم، ندمهم، تحسرهم، أسفهم، عذابهم النفسي الشديد، عندما يُؤتَون كتبهم بشمائلهم، يتحسرون، يقول الواحد منهم: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}[الحاقة: 25-27]، حالة من التحسر والندم الشديد.
في المواقف الأخرى، عندما تكتمل عملية الحساب، وعندما يُميَّز المؤمنون، المفلحون، الناجون، المتقون، الفائزون، الذين مصيرهم إلى الجنة، من السابقين وأصحاب اليمين، يُميَّزون في اتجاه، ويُميَّز أولئك المجرمون والهالكون وأصحاب الشمال في اتجاهٍ آخر، كذلك تأتي الحسرة، يأتي الندم الشديد، عندما يقول الله: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}[يس: الآية59]؛ لأنها من العمليات، التي يبدأ فيها الترتيب لنقل كل طرف باتجاه مصيره، باتجاه جزائه.
ولذلك يحكي القرآن الكريم مشهدًا مؤثرًا، ومعبرًا، ومهمًا جدًا، وفيه درسٌ كبير، للبعض من المنتسبين للإسلام، من المسلمين انتماء، في تلك الحالة من مرحلة الفرز والتمييز لكل فئة، لتكون في اتجاهٍ لوحدها، ترتيبًا لنقلها إلى جزائها: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}[الحديد: من الآية13]، في مواكب النور التي يتحرك فيها المؤمنون، الفائزون، المفلحون، المتقون، الناجون، تغشى أولئك الآخرين الظُلمة، الظلمة الشديدة، ويبدأ فرزهم وتمييزهم باتجاهٍ لوحدهم، فهم يحاولون الالتحاق بصف المؤمنين، والانضمام إليهم، والدخول معهم، يحاولون أن يلحقوا بهم ليدخلوا معهم، لكن ملائكة الله تتصدى لهم، وتحول بينهم وبين ذلك، وتطردهم، وترغمهم على الرجوع، {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}[الحديد: من الآية13]، ليس هناك نورٌ لكم؛ لأنكم لم تقبلوا نور الله في الدنيا، لم تستضيئوا به، لم تتمسكوا به، بهديه العظيم، حالة رهيبة.
بعد أن يجتمعوا، ويخطب فيهم الشيطان، خطبته التي ذكرها القرآن الكريم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ}[إبراهيم: من الآية22]، انتهى أمر الحساب، بقيت مسألة النقل إلى جهنم، جُمعوا، جمع كل الذين مصيرهم إلى جهنم لوحدهم، مع الشياطين، مع المجرمين، مع الفراعنة، مع الطغاة، مع الفاسقين، مع المفسدين، كل فئات أهل النار يُجمعون، ويخطب فيهم الشيطان، ليقول لهم كما ذكر الله في القرآن الكريم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}[إبراهيم: من الآية22]، وعود الشيطان، والأماني، التي كان يقدمها، ويغتر بها الكثير من الناس، لا شيء منها.
{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}[إبراهيم: من الآية22]، يقول: [أنا لم أرغمكم، لم أقسركم على مخالفة هدي الله، على مخالفة تعليمات الله، على العصيان لأوامر الله، ونواهيه، فقط دعوة]، {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}[إبراهيم: من الآية22]، هو في مقام التبرُّؤ منهم، والتبكيت لهم، والتنصل عن المسؤولية، تجاه ما حل بهم، {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ}[إبراهيم: من الآية22]، يتنكر لهم كل التنكر، ويتبرأ.
المتبوعون ليتبرأون من أتباعهم، الذين اتبعوهم في الباطل، اتبعوهم في مخالفة توجيهات الله، وأوامره ونواهيه، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}[البقرة: من الآية166]، يلعن بعضهم بعضًا، يتبرأون من بعضهم البعض، حالة رهيبة هم فيها، عندما يشاهدون نار جهنم، وهم لا يزالون في المحشر، أمر مخيف للغاية!
{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}[الفرقان: 12]، أمر رهيب، من الخوف الشديد، والقلق الرهيب، وهم يتوقعون لحظة الوصول إليها، والتي هي لحظة رهيبة جدًا، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}[الفجر: 23]، أمر رهيب للغاية! عندما يشاهدونها، يسمعون أصواتها المرعبة، ولذلك في وقت نقلهم إليها، يحاولون أن يمتنعوا؛ لأنهم يخافون جدًا، ويدركون أنها ورطةٌ رهيبةٌ جدًا، يدركون فداحة الخسارة، التي خسروها، يدركون عظيم ذلك الهول العظيم، ذلك الهول العظيم، فظاعته، ورهبته.
عندما يمتنعون من الانتقال يساقون بالعنف، يساقون بكل عنف، تسوقهم الملائكة بعنفٍ شديد، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور: الآية13]، يُدفعون رُغمًا عنهم، بعنفٍ وقسوة، {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ}[الرحمن: الآية41]، يُدفعون، ويُسحبون بأرجلهم، ويسحبون بمقدمات شعر رؤوسهم، والعياذ بالله، ويساقون بتلك الطريقة من العنف والشدة، حتى يصلون إلى أبواب جهنم، وهي لحظة من أفظع اللحظات، لحظة رهيبة جدًا، ومخيفة للغاية، عندما اقتربوا من جهنم، ووصلوا عند أبوابها! {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}[الزمر: 71]، فتحت باستقبالهم.
قال عنها: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر: الآية44]، بحسب مستوى العذاب الذين يعذبون به في نار جهنم، هي دركات.
في جهنم بنفسها، في الدرك الأسفل، في أشد العذاب، فئة من المنتمين للإسلام، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}[النساء: من الآية145]، والعياذ بالله، أمر رهيب جدًا!
في تلك الحالة التي وصلوا فيها إلى شفير جهنم، وقبل الإلقاء بهم فيها، هي لحظة رهيبة جدًا، يصورها لنا القرآن الكريم في مشهدٍ رهيب:{وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ}[الانعام: من الآية 27]، معهم وقفة هناك، وقفة ما قبل الإلقاء في نار جهنم، وقفة يُعِّبرون فيها عن تحسُّرهم، عن ندمهم الكبير،{ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }[الأنعام: من الآية 27]، يتمنون أن لو بالإمكان أن يُرُّدوا إلى الدنيا، وأن يقبلوا آيات الله، وأن يهتدوا بها، وأن يعملوا بها، وأن يصدقوا بها، وأن يستجيبوا لما فيها من توجيهات الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن يكونوا مؤمنين، ملتزمين، مطيعين لله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، حالة رهيبة جدًا، لكنه فات الأوان، ليس بالإمكان أن يُرُّدوا، ولا أن يعودوا، أو يتوبوا، أو أي فرصة أخرى، ليس هناك مجال.
كذلك في تلك اللحظة التي يصلون فيها على شفير جهنم، هل سيدخلون طوعًا؟ حالة رهيبة من الخوف الشديد، الذي هم فيه، والرعب، الرعب الرهيب الذي هم فيه، ولذلك يُلقى بهم إلقاءً، رغمًا عنهم، تأخذهم ملائكة الله وتلقي بهم رغمًا عنهم إلى داخل نار جهنم، ثم تُغلق أبوابها المؤصدة، بعُمُد الحديد بالعُمُد الرهيبه، الكبيرة جدًا، العُمُد التي ليست من جنس ما في الدنيا، شيءٌ مختلفٌ تمامًا، {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ}[الملك: 8-9]، ألم يأتكم في الدنيا من ينذركم، من يحذركم من نار جهنم، من هذا المصير، مما يوصل إليه، مما يسبب له؟ يعترفون.
في نار جهنم، في سعيرها، وعذابها المتنوع، يقولون هم حتى عن أنفسهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: الآية 10]، لأنه وصل الإنذار إلى الناس، الناس يسمعون بيوم القيامة، حتى الذي لا يصدق، قد مر على مسمعه الخبر عن يوم القيامة، عندما يُلقى بهم في نار جهنم، فكل ما هناك عذاب، كل ما فيها، كل أوضاعها، كل أحوالها عذاب، والبرنامج منظم لتعذيبهم، بأصناف وأنواع العذاب والعياذ بالله، ولذلك يقول الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” في هذه الآيات المباركة: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ}[الواقعة: 41-42]، أول ما يذكره هناك: هو السموم.
في واقع حياتنا هنا في الدنيا، من أكثر ما نحتاجه، نحتاجه في كل لحظة، هو الأكسجين الذي نستنشقه، نحتاجه بأكثر من أي شيءٍ أخر، أنت تحتاج إلى الأكسجين في كل لحظة، لتستنشقه، أكثر من حاجتك للطعام، وأكثر من حاجتك للماء، والشراب، فأنت تتنفس، تستنشق الأكسجين في كل لحظة، وتعيش على ذلك، إذا انقطع عنك للحظات توشك أن تموت، فإذا كان الأكسجين طيبًا، وفي جوٍ معتدل، ترتاح بذلك، يرتاح جسمك بذلك.
أمَّا هم فحتى الهواء الذي يستنشقونه في نار جهنم: هو من السموم، هو في غاية الحرارة، هواءٌ حارٌ جدًا جدًا جدًا، كل شيءٍ فيها حار في جهنم، حتى ذلك الأكسجين، الهواء الذي هو بديلٌ عن الأكسجين، الذي يتنفسونة في كل لحظة إلى داخل أجسامهم، هو حارٌ للغاية، يدخل الحرارة إلى داخل أجسامهم، إلى الرئة، إلى الجسم بكله، إلى كل خلايا الجسم؛ لأن الأكسجين الذي نستنشقه في الدنيا يصل إلى كل خلايا الجسم، فحالهم كذلك، في ذلك السموم الحار الذي يستنشقونه، وحتى عملية الاستنشاق، والتنفس في جهنم، ليست عمليةً عاديةً وسهلةً، كما هو في الدنيا، الإنسان إذا كان في حالة صحة جيدة يستنشق الأكسجين، ويتنفس براحة، بدون صعوبة، بدون عناء، قد يواجه عناءً في بعض حالات المرض في الجهاز التنفسي، لكن إلى حدٍ ما، لكن في نار جهنم عملية الاستنشاق نفسها، وعملية التنفس، حتى لذلك السموم الحار جدًا، الذي يُدخل الاحتراق إلى داخل الجسم، والحرارة الشديدة جدًا إلى الرئة، وإلى كل الجسم، هي بصعوبةٍ شديدة، {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}[هود: 106]، بزفير وشهيق، لا يدخل إلا بصعوبة، بصوت، ولا يخرج كذلك إلا بصعوبة، بصوتٍ كنهيق الحمير، وكأن الإنسان ينهق، كأنهم ينهقون في نار جهنم، فصوت مع إدخال ذلك التنفس، الذي لا يدخل، ولا يُستنشق، إلا بصعوبة كبيرة، ثم الرد له، كذلك لا يخرج إلا بصعوبة كبيرة، فأصواتهم جميعًا كنهيق الحمير في الدنيا، يعني: زفير وشهيق شديد، أصوات رهيبة جدًا، وتستمر حالتهم تلك- دائمًا- في صعوبة التنفس، والاستنشاق، حتى لذلك السموم، تشتد الحرارة، حرارة شديدة تدخل إلى داخل أجسامهم!
برنامجهم في العذاب منظّم، أوقات يذهب بهم للاحتراق في نيران جهنم المستعرة جدًا، {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}[الزمر: من الآية16]، أصناف كثيرة من العذاب، بشكلٍ منظم، ومستمر، والعياذ بالله، أمر رهيب جدًا!
في تلك الحرارة الشديدة جدًا، التي قد يتمنى الإنسان فيها على شيءٍ من الماء البارد؛ ليُبرِّد به جسمه، ليشرب منه، ليغتسل منه، ليبرد من شدة الحرارة، ما الذي يقدَّم لهم؟ وما الذي يتوفر لهم؟ {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ}[الواقعة: الآية42]، الحميم هو المتوفر، الماء الذي يغلي بشدة، في نار جهنم هو الذي يوفر لهم، ليشربوا منه، ليغتسلوا به، بل أيضًا ليُسحبوا بينه، حالة رهيبة جدًا!
سُلِّط عليهم العطش الشديد، الظمأ الشديد جدًا، والجوع الشديد، وهم لا يزالون في المحشر، قبل أن يصلوا إلى جهنم، عندما يصلون إلى جهنم ودخلوا أيضًا، في جحيمها، وحرارتها، ونيرانها، وسمومها، زاد ظمأهم جدًا، زاد إلى حدٍ لا يمكن أن يتخيله الإنسان، فيتمنون الماء، يطلبون الماء، يُقدَّم لهم الحميم، {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوُجُوهَ}[الكهف: من الآية29]، إذا قُرِّب ليشربه، فمن شدة حرارته، وقبل أن يشربه، يشوي وجهه، حرارة رهيبة جدًا، من بخاره الحار جدًا يشوي الوجوه، يشربون منه بالرغم من ذلك؛ لشدة عطشهم، وظمأهم؛ لأنه شديدٌ جدًا جدًا، فوق الخيال، يشربون منه، فيقطع أمعائهم، ويتعذبون به، يحرقهم في أجوافهم، حالة رهيبة جدًا.
عندما يغتسلون به، لا يغتسلون اختياريًا، بل يؤخذون إلى أماكن في جهنم، من أشد الأماكن في جهنم، {خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ ٱلْجَحِيمِ}[الدخان: الآية47]، إلى وسط جهنم، {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ}[الدخان: الآية48]، { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}[الحج: 19-20]، أمر رهيب جدًا، {يُصَبُّ}، الملائكة هي التي تصب، الزبانية في جهنم هي التي تصب من فوق رؤوسهم الحميم، الذي يُذاب به ما في بطونهم والجلود، حتى جلودهم تذوب من شدة حرارته، يسحبون في الحميم، {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}[غافر: من الآية72]، يسحبون أيضًا بين برك جهنم، بين أنواع المسابح فيها، التي فيها حميمٌ شديدٌ جدًا، يسحبون بالسلاسل إليها، ويغمسون فيها، فيذوقون حرارتها الشديدة وعذابها الأليم.
وليس هناك من ظل مريح، الإنسان عند الحرارة الشديدة، يسعى لأن يحتمي منها، وأن يتوقّى منها بالظل، الظل في منزل، أو الظل تحت الشجرة، أو الظل في أي مكان يتوفر فيه الظلال، فما هو ظل جهنم؟ هو: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ(43) لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ}[الواقعة: 43-44]، يشاهدون فيها الظل، فيفرحون، ويذهبون إليه فإذا به من اليحموم: من دخانٍ كثيفٍ أسودٍ خانقٍ، في غاية الحرارة، هناك مكان في جهنم، مكان رهيب جدًا، من أماكن اتِّقادِها واستعارها من أشد الأماكن فيها، يخرج منه دخان كثيف أسود، في غاية السواد، شديد الحرارة، خانق، فهم عندما يشاهدونه- كما يقول في الآية الأخرى في سورة المرسلات: {ٱنطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَٰثِ شُعَبٍ (30) لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ ٱللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَٱلْقَصْرِ}[المرسلات: 30-32]، أمر رهيب جدًا، ذلك الظل، يقول عنه: {لَا بَارِدٍ}[الواقعة: من الآية44]، بل هو حار جدًا، في غاية الحرارة، كما يقول عنه في الآية الأخرى: {وَلَا يُغْنِي مِنَ ٱللَّهَبِ }، في داخله نيران رهيبة جدًا، {وَلَا كَرِيمٍ}[الواقعة: من الآية44]، لا ينتفعون به أي انتفاعٍ أبدًا، حالة رهيبة، يتعذبون بكل شيء، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ}[الواقعة: الآية45]، هذه نماذج من عذابهم في جهنم.
عُد إلى بقية الآيات، إلى بقية السور القرآنية، تحكي عذابهم باستعار النيران، في نار جهنم، التي تستعر بهم، يحترقون بها، يصلونها، تباشرهم بلهبها وجمرها، فتحرقهم، يتحدث عن ملابسهم: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} [الحج: من الآية19]، تفصيل عليهم، {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ}[إبراهيم: الآية50]، آيات كثيرة، عن قيودهم، عن السلاسل التي تكون فوقهم، أنواع وأصناف رهيبة جدًا من العذاب، المقامع من الحديد، التي يضربون بها، كلما أرادوا أن يخرجوا من نار جهنم، حالة الإذلال، حالة الإهانة، الصديد الذي يتجرعونه، ويشربونه، في نار جهنم، إلى غير ذلك من أنواع العذاب والعياذ بالله.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ}[الواقعة:45-46]، كانوا قبل ذلك في الدنيا مترفين، هؤلاء هم كبار أهل جهنم، هم الذين يقودون المجتمع البشري إلى نار جهنم، المترفون، من هم المترفون؟ البَطِرُون بالنعمة، الذين أطغتهم النعمة في هذه الدنيا، فوظفوها، واستغلوها، في تلبية شهواتهم وطموحاتهم، فيما فيه الفسق، فيما فيه الفجور، فيما فيه الظلم، فيما فيه الطغيان، فيما فيه التكبر، فبطرهم بالنعمة، وطغيانهم بالنعمة، جعلهم يوظفونها، ويستغلونها، في هذه الدنيا، فيما هو معصيةٌ لله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”:
في تلبية شهواتهم ونزواتهم في الحرام.
في نشر الفساد.
في ارتكاب المظالم.
في التكبر على عباد الله.
في الصد عن سبيل الله.
في المحاربة لدين الله.
في النشر للفساد بين أوساط المجتمعات.
أسوأ دورٍ في الواقع البشري، وفي المجتمع البشري، هو للمترفين، المتمكنين، الذين وظفوا كل إمكاناتهم، كل نفوذهم، كل ثروتهم، في ذلك.
وهذا ما نشهده في عالمنا، في واقعنا، في عصرنا وزمننا، كيف أن الذين يقودون المجتمع البشري نحو الهاوية، ينحرفون به عن منهج الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، يسعون إلى نشر الفساد فيه، يسيطرون عليه بالظلم والجبروت، يرتكبون المظالم، والجرائم، والمآثم، يسعون إلى الانحراف بالناس، عن نهج الله، ويصدون عن سبيل الله، على رأسهم من؟ المترفون. في عالمنا الإسلامي من الذي يتحرك بهذا الشكل؟ هم المترفون، بإمكاناتهم الضخمة، التي يوظفونها في سبيل ذلك، على مستوى العالم، هم المترفون، في الغرب والشرق، الذين يوظفون كل إمكاناتهم في ذلك.
وعلى مدى التاريخ في التصدي للأنبياء، في مواجهة الأنبياء، في صد الناس عن سبيل الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، عن نهجه، عن الالتزام بدينه وتعليماته، كانوا هم رأس الحربة في التصدي لرسالة الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”.
ولذلك يقول الله “سُبحَانَهُ وتَعَالَى” في القرآن الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}[سيأ: الآية34]، يكونون هم في المقدمة، في الواجهة، من يعارض هدى الله، من يسعى لإفساد الناس، للانحراف بهم، لنشر الفساد في أوساطهم، لشرائهم وشراء ذممهم بالأموال، لإغرائهم، لاستقطابهم، لتحريكهم في صف الباطل وخدمة الباطل، يعملون ذلك.
لا تعني الآية المباركة أن المترفين فقط هم من يدخلون إلى نار جهنم، هو أتى بهم هنا في هذا السياق في مقابل السابقين في الجنة، هم يقومون بدورٍ في افساد المجتمعات، والانحراف بها، والاتجاه بها إلى نار جهنم، يقابل دور السابقين في الاتجاه بالناس إلى الجنة، إلى رضوان الله “سُبحَانَهُ وتَعَالَى”، هم يقابلون ذلك الدور، ولكن باتجاه النار، وإلَّا عُد إلى القرآن الكريم، ماذا يقول عن الضعفاء، الفقراء، المفلسين، المعدمين، العاديين، الذين قد يعيش الكثير منهم حالة البؤس الشديد، والفقر المدقع، والمعاناة الكبيرة، وهو إنسان عادي، لكنه ينحرف باتجاه أولئك، وجهته وجهتهم، اتجاهه اتجاههم؛ في المخالفة لتوجيهات الله، في الانحراف عن نهج الله، في المعصية لله، في اتِّباع هوى نفسه، ماذا يقول عنهم في القرآن الكريم؟ حتى وهم في ساحة القيامة: {وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ}[إبراهيم: من الآية21]، من هم الضعفاء في هذه الآية؟ من هم الضعفاء؟ هم أولئك الذين كانوا يعيشون حالة البؤس، الفقر، الظروف الصعبة، العاديون، الذين ليس لهم تأثير، نفوذ في المجتمع، إنسان عادي، لكن وجهته كانت وجهة أولئك المجرمين، {فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ}[إبراهيم: من الآية21]، ولو بالقليل، في مقابل الهلاك في اتباعهم، {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}[إبراهيم: من الآية21].
بل في داخل نار جهنم، وهم يحترقون فيها، ويتعذبون بعذابها، يقول الله عنهم: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ}[غافر: من الآية47]، كلٌّ منهم يحتج على الآخر، ويحمله المسؤولية، ويلومه، ويوبخه، ويغتاظ منه،{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا}[غافر: 47-48]، الأغنياء والفقراء، الأتباع والمتبوعين، {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}[غافر: من الآية48]، نعوذ بالله، نعوذ بالله!
فالمترفون، بإمكاناتهم، بثرواتهم، بنفوذهم، هم يقودون المجتمع البشري باتجاه جهنم، بالإغراء بالمال، بالاستقطاب به، بنشر الفساد من خلال إمكاناتهم، بالدفع بالناس وراء النزوات، والأهواء، والشهوات، والمفاسد، بكل وسائل الإغراء، بكل وسائل، وسائل الإغراء في هذا الزمن كثيرة: برامج، وإنتاج لوسائل الإعلام، وطرق كثيرة ووسائل كثيرة والعياذ بالله! فأولئك، ويلحق بهم من يتورط معهم، تقرأ في القرآن الكريم حديثه عن الفاسقين، عن المجرمين، عن المنافقين، والوعيد للمنافقين يشمل: المنافقين الأغنياء والأثرياء، والمنافقين الفقراء والمعدمين، والبسطاء من المنافقين، العاديين جدًا، يشملهم ذلك الوعيد، {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}[النساء : 145].
تقرأ في آيات القرآن الكريم الوعيد على معاصٍ وذنوب محددة من كبائر الذنوب، الوعيد عليها بالنار وبالخلود في النار:
مثل: أكل الربا.
مثل: قتل المؤمن عمدًا، عدوانًا.
مثل: أكل مال اليتيم.
مثل: المخالفة في الإرث، وأكل حق الآخرين في الإرث.
مثل: الزنا، مثل: الفساد الأخلاقي، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً(68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً}[الفرقان: 68-69].
مثل: الصد عن سبيل الله.
الكتمان لما أنزل الله من البينات والهدى بالنسبة للعلماء، والمتعلمين، والمثقفين، في مقام التبيين، المقام الذي يلزم فيه التبيين.
الصد عن سبيل الله كذلك من الجرائم الرهيبة التي يُخلّد صاحبها في النار، وأتى الوعيد عليها بخصوصها، الوعيد بجهنم، بالعذاب، بالنار، وبالخلود في النار.
التنصل عن المسؤوليات والواجبات الكبيرة.
الكفر ببعض ما أنزل الله.
أشياء كثيرة أتى الوعيد عليها في القرآن بجهنم، وبالخلود في جهنم.
الموالاة لأعداء الله، الموالاة لأعداء الإسلام، مما يُدخل صاحبه النار، ويُعذب فيها، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ}[آل عمران: من الآية28]، {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة: من الآية51]، وأين مصيرهم إلَّا في جهنم.
تجد الوعيد في القرآن يحدد المصير المحتوم- بحسب تلك الأعمال، بحسب تلك الجرائم، بحسب تلك المخالفات- الذي يتجه بصاحبه إلى النار والعياذ بالله.
التفريط في المسؤوليات المهمة، التي منها: إقامة القسط، والعدل، التصدي للظلم، الجهاد في سبيل الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… غير ذلك، مسؤوليات مهمة.
{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة :الآية46]، كانوا يصرون على الذنوب العظيمة، الذنوب الفظيعة، الذنوب التي توعد الله عليها بالنار، لم يكونوا يلتفتون إلى ما في القرآن الكريم من تحذيرٍ ووعيد، إلى ما حذر به الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، ما حذر عن ذلك، وبيّن وعيد الله فيه، فكانوا أهل إصرار، أهل إصرار واستمرار، ولا يُقلعون عن ذلك، لا يتوبون، لا يتخلصون من تلك الذنوب، لا يرجعون إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”.
{وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} [الواقعة: 47-48]، موقفهم من البعث، من المعاد، من الجزاء في الآخرة، موقف المكذب، موقف المنكر، المكذب بشكلٍ صريح، مثل قولهم هذا، والمكذب في واقعه، مثلما حكاه القرآن الكريم عن واقع الكثير من الناس، الذي لو أيقن حقًا، لكانت ثمرة يقينه هي التقوى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة: من الآية4]، هكذا يقول عن المتقين، يقينهم بالآخرة بَعَثهم على التقوى، دفعهم للتقوى، دفعهم للعمل بما ينقذهم، بما فيه نجاتهم من عذابها.
{قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[الواقعة: ٤٩ -٥٠]، كل البشر، بكل أجيالهم، بكل تاريخهم، بكل مراحل حياتهم، منذ آدم إلى آخر إنسان، الكل سيحشرون في يومٍ واحد؛ إنما في مسيرة الحياة تمضي الأجيال جيل بعد جيل بعد جيل، إلى نهاية الأجل المسمى للوجود البشري، لوجود الإنسان على الأرض، إلى آخر مولود مكتوب له أن يكون هو تمام الإنسانية، تمام الوجود البشري، أن يكون آخر مولود من البشر، بعده تقوم القيامة، ليس هناك أي مواليد جديدة، ليس هناك أي جيل إضافي، الكل يتلاحقون أجيالًا بعد أجيال، لكنهم في نهاية المطاف تأتي القيامة ويحشرون جميعًا، في موعدٍ محددٍ، حدده الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، لا يعلم به إلا هو، من أسراره عن الساعة، القيام: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}[الأعراف: من الآية187].
{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ}[الواقعة: الآية51]، الضالون عن نهج الحق، عن طريق الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، عن هدي الله، لم تتمسكوا به، لم تهتدوا به، انحرفتم عنه، {الْمُكَذِّبُونَ}، المكذبون بالحق، المتنكرون للحقائق، التي قدمها الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، المتنكرون بأمر المعاد والحساب والجزاء الذي لابدَّ منه، {لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ}[الواقعة: الآية52]، هو طعامكم في نار جهنم، يدخلون إلى نار جهنم وهم في أشد حالةٍ من الجوع، يزداد جوعهم، يُرغِمهم ذلك الجوع الشديد جدًا، على الأكل من شجرة الزقوم، التي هي طعامهم، وهي عذابٌ رهيب، نتنةٌ في رائحتها، رائحة كريهة جدًا، أبشع رائحة، وأنتن رائحة، وأقذر رائحة، وكذلك مُرَّةٌ في مذاقها، أسوأ مذاق، أسوأ طعم يتذوقه الإنسان، وحارةٌ جدًا، إلى درجة أنها كما قال في القرآن في آية أخرى: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان: 45-46]، تغلي في بطن الإنسان، حرارة شديدة جدًا جدًا جدًا، لكن من شدة الجوع، الجوع الشديد جدًا، الذي يُسلَّط عليهم، يأكلون منها، بالرغم من مرارة مذاقها، من نتانة رائحتها، من بشاعة منظرها، من حرارتها، وسوء مذاقها.
{لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (52) فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الواقعة: 52-53]، حتى تمتلئ بطونهم، حتى تمتلئ بطونهم، ودون أن يشبعوا، تزداد حرارتهم جدًا مما أكلوه منها، {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ}[الواقعة: الآية54]، ليس هناك مشروبات، ولا عصائر، ولا بارد، على ذلك الطعام، يشربون عليه من الحميم، من حميم جهنم، حرارة على حرارة، عذابٌ على عذاب.
أكثر ما سبَّب لهلاك الكثير من الناس: سعيهم وراء الترف في هذه الحياة، وراء الترف، يريد أن يرتاح، يريد أن يكون له ثروة، يريد أن يكون له من أطيب الطعام، من أحسن الشراب، فلا يبالي في سبيل ذلك مما كان، من حلال، أو حرام، بحق، أو باطل، يريد أن يلبي نزواته، رغباته، شهوات نفسه، يورط نفسه؛ فتكون العاقبة هي ذلك العذاب الشديد، فإما أن يكون الإنسان مترفاً، أو أنه سعى وراء الترف، ولم يصل حتى إلى الدرجة التي كان يأملها ويرغب بها.
{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيم}[الواقعة: الآية55]، (شُرْبَ الْهِيم): الأبل العِطاش التي تصاب بمرض اسمه (الهَيام)، مرض الهَيام الذي يصيب الأبل: هو عطشٌ شديد، تشرب ولا تروى، تشرب بشدة، تشرب تشرب، وتشرب وتشرب، لكنها لا تروى، حتى تموت، فهم يشربون بذلك المستوى من الشرب؛ لشدة الظمأ، لشدة الحرارة، لشدة العطش، الحرارة تبعث فيهم الظمأ، وهم يشربون حميمًا، يتجرعونه مع شدة حرارته، وهو يشوي الوجوه، يُقَطع الأمعاء، لكنهم لا يستطيعون إلَّا أن يشربوا وأن يشربوا وأن يشربوا، فيزداد عذابهم، ولا يروون أبدًا، لا يرتوون منه مهما شربوا.
{هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ}[الواقعة: الآية56]، ضيافتهم، من حين دخولهم إلى نار جهنم، يُقدَّم لهم، يُقدَّم لهم تلك المائدة، تلك الضيافة؛ لأنهم يصلون وهم في شدة الجوع وشدة العطش، فيُقرَّب لهم هذا الطعام وهذا الشراب، ضيافة، ضيافة بإذلال وإهانة والعياذ بالله، يوم الحساب، يوم الجزاء.
كل هذا نماذج فقط، نماذج من عذابهم، من حالهم البَئِيس والرهيب؛ لينذرنا، ليحذرنا، ونحن هنا في الدنيا، وهو هنا يقول لنا ويخاطبنا: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَ هُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون}[التحريم: الآية6}، أيُّ شهوة من شهوات الدنيا تستحق من الإنسان أن يجازف تلك المجازفة، وأن يورط نفسه إلى نار جهنم! غمسةٌ واحدةٌ في نار جهنم تنسيه كل نعيمٍ في الدنيا، كل لذة، كل راحة قد عاشها في هذه الحياة، غمسةٌ في نار جهنم، أيُّ عملٍ من الأعمال التي فيها نجاتك، فيها فوزك، فيها فلاحك، ثم تركته وتنصلت عنه، تركت تلك الأعمال، تنصلت عنها، والله يخبرك أن فيها نجاتك، {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف: من الآية10].
لماذا لا يكون عندك دافع، حافز، تفاعل، استجابة لما فيه نجاتك، لما فيه وقايتك من ذلك العذاب الرهيب، لما فيه فلاحك أنت، فوزك أنت؟! لا شيء يستحق منك أن تجازف لأجله فتترك تلك الأعمال، لا مسألة أنها تعارضت مع رغبة نفس، ولا أنك تصورت أن فيها شيء من المشقة، ولا لاستياء، أو إثارة، أو غضب، أو انفعال، أو أي شيء، هي أعمالٌ فيها فوزك، فيها فلاحك فيها نجاتك، تضمن بها مستقبلك الأبدي العظيم في جنة الله، في رضوان الله، والسلامة من ذلك العذاب، ما الذي يردُك؟ ما الذي يُثبِطُك؟ ما الذي يؤخرك؟ لماذا لا توقن؟ لماذا لا تؤمن حق الإيمان، فتستجيب لله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”؟ لماذا لا تغتنم فرصة هذا الشهر الكريم، في الطاعة، وتلاوة القرآن، والعمل الصالح، ثم تقيمّ واقعك؛ لتعرف ما أنت مقصرٌ فيه، حتى لا تكون ممن يصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيم، على الذنوب العظيمة: إمَّا التي فيها تجاوز لحدود الله، أو فيها معصية لله تجاه ما أمر به، ووجَّه إليه، وأنت متنصلٌ عنه، مقصرٌ فيه؟ لماذا لا تُكثر من الدعاء في هذا الشهر الكريم بالنجاة من العذاب، بالعتق من النار، بالتوفيق لأسباب النجاة؟ لماذا لا تربي نفسك في هذا الشهر الكريم على التقوى، فتتعود على التقوى، بما يقيك من عذاب الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، تتعود على الصبر، تتعود على الالتزام، تتجه على أساس الاستجابة العملية لله “”سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”؟
نَسْأَلُ اللَّهَ “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يَتَقبَّل مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَام، وَالقِيَام، وَصَالِحَ الأَعْمَال، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛