مجلس الأمن الدولي.. بين حفظ السلم والأمن الدولي وسياسة المقايضات!
|| مقالات || د. حبيب الرميمة
شكّل إعلانُ سان فرانسسكو عام 1945م، منعطفاً تاريخياً في قيام منظمة دولية تحاكي في تركيبتها شكل سلطات الدولة الأَسَاسية (سلطة تشريعية- قضائية- تنفيذية) وقد حرص واضعوا الميثاق في مقترحات دمبرتون أوكس 1944م، أن يستفيدوا من فشل عُصبة الأمم التي تم التوقيع على عهدها عام 1919م، كملحق لاتّفاقية فرساي التي أنهت الحرب العالمية الأولى، إلا أن فشلها؛ بسَببِ قصور آلياتها أَدَّى إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، لذلك جاء ميثاق الأمم المتحدة أكثر تجسيدا لنظام الأمن الجماعي الدولي والذي يعتبر غاية قانون التنظيم الدولي، سواء من حَيثُ هيكل المنظمة، والتي تحاكي الهيكل الأَسَاسي لسلطات الدولة –كما سبق الإشارة إليه- أَو من حَيثُ الآليات العملية التي تضمن تحقيق غاية نظام الأمن الجماعي الدولي وهو ما عبر عنه الميثاق في مادته الأولى (حفظ الأمن والسلم الدولي) وما جسدته المادة الثانية من الميثاق بمجموعة من المبادئ الأَسَاسية التي تحقّق مقاصد المنظمة المنصوص عليها في المادة الأولى سابقة الذكر.
وأهم هذه الآليات العملية أن الدول عهدت بالتبعات الرئيسية لحفظ الأمن والسلم الدولي إلى جهاز متخصص هو مجلس الأمن الدولي، وجاءت نصوص الميثاق موضحة لعمل هذا الجهاز في الفصل السادس والسابع منه، ودون التعرض للثغرات القانونية التي ما زالت تشوب عمل هذا الجهاز -أبرزها حق الفيتو- أَيْـضاً دون التعرض إلى تقييم دور الأمم المتحدة بشكل عام، ومجلس الأمن بشكل خاص من الناحية العملية، فَـإنَّ إخفاقات مجلس الأمن تزداد أكثر فأكثر؛ بسَببِ تغليب المصالح السياسية للدول -خُصُوصاً الدول الخمس الكبرى- عن الاعتبارات القانونية، بحيث أضحى هذا الجهاز إما عديم الجدوى في حَـلّ المسائل التي تهدّد الأمن والسلم الدوليين، أبرزها العدوان بما يتسق وقواعد قانون التنظيم الدولي، أَو استغلال الدول الكبرى لاختصاصات هذا الجهاز، لتحقيق مصالحها الخَاصَّة لا المصالح المشتركة للدول بما يسهم والغاية التي انشئت لأجلها المنظمة.
نركز هنا عن واحدة من أبرز الإخفاقات لمجلس الأمن في أداء مهامه والمتمثل في الملف اليمني، والقرارات الصادرة بشأن اليمن، والتي أصبحت وصمة عار سيكتبها التاريخ في جبين هذا المجلس كما كتب التاريخ عجز عصبة الأمم سابقًا (مجلس العصبة) إعمال مبادئها فيما يتعلق بغزو ايطاليا للحبشة.
ودون أن ندخل في نقاش تفصيلي أَو تحليلي لمدى احترام مجلس الأمن لنصوص ميثاق الأمم المتحدة منذ شن العدوان على اليمن بتاريخ 26 مارس 2015م، ومن ثم فحوى القرار (2216) والذي صدر بعد أكثر من شهر لشن العدوان!! والوثائق التي استند إليها القرار السابق، المقدم آنذاك من مندوبة قطر باسم مجلس التعاون الخليجي، وهي وثائق لا تحتاج إلى حنكة قانونية في اكتشاف تدليسها وعدم مراعاتها للقواعد المتفق عليها واقعياً في نظام عمل مجلس الأمن.
أَيْـضاً لا ندخل بمدى موافقة هذا القرار لآلية عمل الأمم المتحدة، وهل خول التحالف التي تقوده السعودية بالقيام بعمل عسكري، رغم صدوره بعد شهر -كما قلنا- من قيام التحالف بقيادة السعودية باستخدام القوة بالمخالفة الصريحة لقواعد القانون الدولي وقانون التنظيم الدولي، بما يشكل جريمة عدوان مكتملة الأركان.
فقط نتناول هنا فضيحة مجلس الأمن من خلال المقال الذي كتبه قبل أسبوع المبعوث الأممي إلى اليمن السفير جمال بن عمر، على قاعدة (وشهد شاهد من أهلها) وكيف فضح الدور السعودي في نسف كُـلّ الالتزامات الدولية التي تمليها نصوص ميثاق الأمم المتحدة، والبدء بالعدوان على اليمن على الرغم من الخطوات السلمية التي انجزتها كافة القوى السياسية في صنعاء، امتثالاً لقرارات مجلس الأمن الدولي والرعاية الأممية التي يقودها الوسيط الدولي، حَيثُ يبدأ مقاله كإعلان محاكمة للأمم المتحدة ولمجلس الأمن بصفة خَاصَّة الذين تسببوا بهذه الكارثة بالمخالفة الصريحة للغاية الأسمى للأمم المتحدة ومجلس الأمن خصوصاً(حفظ الأمن والسلم الدوليين) وهنا نقتبس من كلامه الآتي “بعد مقتل نحو ربع مليون يمني، وتهجير أكثر من ثلاثة ملايين آخرين أَو اضطرارهم للنزوح، وبعدما تفشت جرائم الحرب على نطاق واسع، وضاع أكثر من نصف عقد في صراع بدون طائل، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن ”عودة الدبلوماسية“ إلى اليمن”.
ثم يستطرد سعادة السفير حديثه بما يشير أن غاية المقال ليس سرد الواقعة بما حصل وإنما كوثيقة تحمل شهادة رسمية من رجل مسؤول تم تكليفه بإنجاز مهمة أممية فيقول: “بصفتي مبعوثا خاصا للأمم المتحدة إلى اليمن، كنت في ذلك الوقت في صنعاء مُكِبـا على تيسير مفاوضات معقدة تهدف إلى صياغة اتّفاق لتقاسم السلطة يضع حدا لاستيلاء الحوثيين على مفاصل الدولة، ويمنع نشوب حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر، وبعد عشرة أسابيع عصيبة، تم التوصل إلى حَـلّ وسط يعكس توافق الأطراف على شكل السلطتين التنفيذية والتشريعية والترتيبات الأمنية، والجدول الزمني للعملية الانتقالية، كان الاتّفاق مطروحاً على الطاولة، وقد أَطلعتُ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على تفاصيله، بل وكنت أُجري مناقشاتٍ مع كبار المسؤولين السعوديين حول المكان الذي يُفترَضُ أن يحتضنَ حفلَ التوقيع، بعد يومين على عودتي من الرياض وبدون سابق إنذار بدأت الغارات الجوية، ومن نافذة الفندق حَيثُ كان يقيم فريق الأمم المتحدة، تابعت بمرارة حجم التدمير الذي كانت تتعرض له إحدى أقدم المدن في العالم”.
طبعاً من غير المعقول أن يكون الوسيط الأممي لم يدون آنذاك ما قاله هنا في احاطة سرية إلى مجلس الأمن، وهو ما يشير إلى طبيعة الانحراف المخزي لمجلس الأمن واقعياً في تحقيق أهدافه المنصوص عليها في الميثاق.
بل إن السفير بن عمر يفضح هذا الانحراف في تغليب الاعتبارات السياسية على الاعتبارات القانونية والغاية الأسمى لنصوص الميثاق كقواعد عالمية، وكيف أصبحت قرارات هذا المجلس تتخذ كمقايضة سياسية في ملفات متعددة تصل بعضها إلى تهدئة غضب دولة معينة لها تأثير معين وإن كان ذلك على حساب دمار وقتل الآلاف من شعب لدولة عضو في الأمم المتحدة!!
وهو ما يظهر من قوله “للأسف وفّر قرارُ مجلس الأمن (2216) غطاءً للفظاعات التي تلت بعد ذلك، قرار صاغه السعوديون وحملته بسرعة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى مجلس يفترض أنه معني بضمان الأمن والسلم الدوليين، لقد كان حليفهم الخليجي في حاجة إلى ترضية بعد إبرام الاتّفاق النووي مع إيران في غفلة منه، لابد أنها بدت مقايضةً ديبلوماسية عادلة لهم، غير أن الطرفَ الغربي في المقايضة كان يعرف كذلك أن مطالبة الحوثيين المسيطرين على الأرض والمتقدمين ميدانيا بالاستسلام لحكومة تعيش في منفى فندقي أنيق في الرياض لم يكن أمراً واقعياً أَو مقبولاً، لكن ذلك لم يكن ذا أهميّة كبيرة بالنسبة لهم؛ لأَنَّهم كانوا موقنين بأن الروس سيعرقلون القرار”.
وبعيدًا عن الانتهازية السياسية لروسيا والتي كان المتوقع منها أن تعرقل القرار، بحسب كلام السفير، باعتقادنا أن هذه المقايضة في صناعة القرارات الأممية المخزية والتي أصبحت فارغة من مفهومها القانوني، لم تكن حالة طارئة أَو وضعا استثنائيا، وإنما أصبحت سلوكا مجسدا في قرارات مجلس الأمن تجاه الشعب اليمني.
وعلى هذا المنوال لا نستبعد أن يأتي يوماً يصدر مجلس الأمن قراراً يمنع طرفا معتد عليه (الجمهورية اليمنية) من الدفاع عن نفسها، ويقرّر عدم استهداف المطارات والمنشآت التي تنطلق منها طائرات العدوان السعودي لقتل وتدمير شعب بأكمله، دون أن يطالب الطرف المعتدي (السعودية) بعدم الاعتداء على أراضي دولة عضو في المنظمة (اليمن)!!
كما يقرّر أن يمتنع الجيش واللجان “فوراً” عن تحرير جزءا من أرضه بحجّـة الخوف على المدنيين في تلك المحافظة دون أن يطالب من دول العدوان رفع الحصار غير المشروع منذ سنوات والذي يموت؛ بسَببِه الملايين من أبناء الشعب اليمني!!
ومن يدري لعل أن يوقظ ضمير مارتن غريفت ذات يوم –ولا أخاله كذلك– ليكتب مقالا كما فعل سابقه يقول فيه: للأسف، وفر قرار مجلس الأمن (…) غطاء للفظاعات التي تلت بعد ذلك، قرار صاغه السعوديون وحملته بسرعة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى مجلس يفترض أنه معني بضمان الأمن والسلم الدوليين، لقد كان حليفهم الخليجي في حاجة إلى ترضية.
لكن ذلك لم يكن ذا أهميّة كبيرة بالنسبة لهم؛ لأَنَّهم كانوا موقنين بأن الروس سيعرقلون القرار.
إلى ذلك الحين وما أخال غريفيث يتمتع بنفس الضمير الذي يحمله جمال بن عمر – واتمنى أن أكون مخطئاً- يبقى انفراط مصداقية مجلس الأمن من جهاز غايته حفظ الأمن والسلم الدولي إلى جهاز مقايضة وترضية تكشف المأزق الكبير للمجتمع الدولي “المتحضر”، والمواثيق التي تدعي احترام حقوق الدول كبيرها وصغيرها؟ والكم الهائل من الاتّفاقيات الدولية التي تجسد احترام حقوق الإنسان، وما للدول كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، كحقوق ومواثيق عالمية كسمة من سمات العصر الحاضر بما تمليه قيم “الحضارة الغربية”؟
هنا نستحضر مقولة المفكر المصري الراحل د. كمال أبو العز:
“شران لا يختلف العقلاء على موضع الشر فيهما, مع ذلك فقد طبعا تاريخ البشرية ولازماه, الحرب, واستعباد الإنسان للإنسان، ينتقل البشر من البداوة إلى الحضارة ومن الفلاحة إلى الصناعة ومع ذلك تبقى الحروب ويستمر استغلال الإنسان للإنسان”.
هنا حق لنا أن نصرُخَ كشعوبٍ مستضعفة.
ما أقربَ اليومَ من أمسه.
ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة.