التاريخ يصنع وعينا 39 على أعتاب الذكرى المئوية الأولى لمجزرة تنومة (1- 3)
حمود الأهنومي
حمل الرجلُ السبعيني صالح مبخوت علي سعيد النصرة من أهالي بني مطر، محافظة صنعاء، بندقيّتَه، وانخرط في صفوف المجاهدين منذ سقوط أدوات السعودية باليمن في 2014م، فتنقَّل من جبهةٍ إلى أخرى، إلى أن اسْتَقَرَّ به المقامُ في آخرِ جبهةٍ في تخوم عسير، لتوافِيَه الشهادةُ هناك، وقد جاهد، وصابر، ورابط، وختم الله له بالحسنى، والسؤال الذي يُلِحُّ على أحدنا، هو: هل كان لدى هذا الشيخ الكبير دافعٌ إضافي للتحرُّك سوى ما هو سائد في أوساط اليمنيين، من وجوبِ النفيرِ العام للدفاع عن الدين والأرض والعِرْض؟
لا أذيع سرا إن قلتُ: إن الشهيد كان مدفوعا إلى التحرك الجهادي بعدد من العوامل والأسباب الإضافية، والتي من بينها أن جدَّه الحاج علي سعيد النصرة، وعمَّه صالح علي سعيد النصرة، ورفيقهما الحاج علي مدينة من قرية المجدور بني مطر، وآلاف اليمنيين، كانوا شهداء في تنومة، وعليه فقد كان الشهيدُ يعي ما معنى أنه يجاهد في سبيل الله قومًا معتدين، لم يستجدَّ عدوانُهم من وقتٍ قريبٍ، بل لقد فتحوا علاقةً دموية ضد شعبنا، عمرُها قرْنٌ من الزمان، بل أكثر من ذلك كما سيتضح في هذه المقدمة.
إن هذا ما يجب أن يتذكره اليمنيون الأحرار باعتبار أن العدو الذي نواجهه اليوم هو ذات العدو الذي واجهه آباؤنا وأجدادنا، خصوصا ونحن في الأربعاء القادم 17 من ذي القعدة سيحيي اليمنيون ذكرى أليمة، كانت ولا زالت جرسا مبكرا للعدوان القائم اليوم، إنها الذكرى المئوية الأولى لمجزرة حجاج اليمن في تنومة.
وإنه لمن الطبيعي أنْ تَصْطَفَّ مجزرةُ تنومة مع مجازرِ هذا العدوانِ القائمِ على بلدنا اليوم في مسار واحدٍ، لتشكِّل وعيا راسخا لدى عموم شعبنا الحر بأن عدوَّ الأمس هو نفسُه عدوُّ اليوم، وأن مهمة الأحرار اليوم مثلما كانت بالأمس، وهي التحرُّك والجهاد ضد المعتدين على بلدنا وأمتنا، ولهذا لم يكن غريبًا اليوم أن نجِدَ أحفادَ شهداء تنومة وسدوان في مقدّمة الصفوف والجبهات، فهو وعيُ التاريخ، الذي يُلْزِم كلَّ حرٍّ منهم أن يكون في هذا الموقف.
وإذا تذكّرنا مَن أغرق أوَّلَ بارجةٍ سعودية في البحر الأحمر، وهو الشهيد العقيد خالد أحمد الحلحلي، أحد أبطال قبيلة حاشد الأبية الذي استُشْهِد في 2017م، فإننا يجبُ أن نتذكَّرَ أحدَ أجداده، وهو الشهيد البطل، الشيخ مقبل بن مبخوت الحَلْحَلي من بني صريم، حاشد، أحد أبطال معارك التحرير ضد الأتراك، والذي استأذن في سنة 1341هـ سيفَ الإسلام أحمد ابن الإمام يحيى حميد الدين للحج، وعندما بدأ الهجومُ على الحُجّاج في تنومة لَجَأَ الشيخُ الحَلْحَلي إلى رَبْوَةٍ، وحَفَرَ مترسَه فيها، وقاتل بما معه من ذخيرة حتى انتهت، وكان بكلِّ طلقةٍ يصيبُ بها مُقاتِلاً، ثم قاتل بسلاحه الأبيض، ثم بـ(صميله)، حتى استُشْهِد، وعندما عَلِمَ سيفُ الإسلام أحمد بنبأ استشهاده وقوة موقفه ذرف الدمع، وقال: «لا إله إلا الله .. لم يدخلْ أحدٌ الجنَّة بالصميل، إلا الشيخ الحَلْحَلِي»، وما يُشْبِه هذا الموقفَ يُروَى للشهيد النقيب محمد قايد الهجام من قبيلة أرحب الباسلة، ولكن مع الإمام يحيى حميد الدين نفسه، ولا تَبْعُد صحة الروايتين معا.
خلال عام 1439هـ بينما كُنْتُ أوثِّق الحاج أحسن الجُشَيْمي، أحد أبناء وادي الفروات سنحان، محافظة صنعاء، باعتباره أحد الناجين من مجزرة تنومة، إذا بي أمُرُّ في نفس اليوم في أحد شوارع العاصمة صنعاء، فأجِدُ لوحة عملاقة تحمل اسم العقيد في القوات البحرية الشهيد علي بن علي بن أحسن الجشيمي، وكأنه من أحفاده، وهذا هو ما يعنيه الوعي بالتاريخ، وما يتركه من آثار إيجابية.
لم تكن بعيدةً عن هذا الجوِّ الجهادي أسرةُ (صَبِر) الأشمورية، من محافظة عمران، التي لها شهداء في تنومة، واليوم قدّمَتْ شهداءَ ومجاهدين في مواجهة هذا العدوان المتغطرس، وكان أحد دوافعهم من أولِ يومٍ إلى التحرك هو أن دَمًا لهم عند كيان آل سعود، مؤكِّدين أن هذا الدم لا يمحوه إلا دم، وأنهم لن يقبلوا عن دم جدِّهم الشهيد في تنومة مِلْءَ الأرض ذهبا، ولهذا فكثيرا ما أطْرَبَتْهم الجبهات، واشتاقوا إلى العزة والكرامة في تلك العَرَصَات، وهناك الكثير من الأسر والبيوتات اليمنية جرت على هذا المنوال.
والشيءُ بالشيءِ يُذْكَرُ، حيث الحقيقة تقول: إن عدوانَ آل سعود الوهابيين على اليمن لم يبدأ في تنومة أيضا، بل سبق ذلك اعتداءاتٌ عديدة وفظيعة، فعلى سبيل المثال، في 3 محرم سنة 1196هـ تعرَّضَ الحجاجُ اليمنيون في طريق عودتهم إلى اليمن لاعتداءٍ تكفيري من قبل بعضِ قبيلة بني تغلب، من قبائل خثعم وغامد، وقُتِلَ منهم نحوُ خمسين حاجا، وفرَّ كثيرٌ منهم في الشعاب والآكام، وانتُهِبَ عليهم نحوُ مائتين من البغال والحمير موقرة بالبضائع والتجارة، ولما اسْتَفْصَحُوا عن السبب وجدوا أن هذه القبيلة (بني تغلب) دخلت ذلك العام في الدعوة الوهابية، وأن أمير الدرعية عبدالعزيز بن محمد بن سعود (ت1218هـ)هو الذي أمرهم بذلك العدوان، ويضيف المؤرخ اليمني لطف الله جحاف (ت1243هـ) قائلا: « فلما ذهبوا بأسلابِ حاجِّ اليمن إلى عبدالعزيز، قال: أسأتم فإني ما بَعَثْتُكم للسَّلْب، ولكن لتأتوني برأسِ أميرِهم، فقالوا: طِبْ نفسًا، سيَقْدُمون عامَهم هذا، ونأتيك برأسِ العُصْبَة»، لكن الحجاج اليمنيين لم يسلكوا تلك الطريق في آخر ذلك العام.
وذكر المؤرخ جحاف أنه في حج عام 1211هـ عَدَلَ حجَّاجُ اليمن إلى طريق الساحل مرة أخرى؛ خوفا من جماعة الوهابيين أن يَسْتَبيحوهم، وكان أمر الوهابية قد فشا في مناطِقَ من عسير والحجاز، وذكر في حج عام 1217هـ أنه عاد أكثرُ حجاج اليمن من الناصرة بقرب الطائف من دون حَجٍّ، وذلك بسبب تدمير الوهابيين للطائف، وتهديدهم للمسلمين المسافرين، فخاف الحجاج على حياتهم منهم، وعادوا أدراجهم؛ الأمر الذي أدّى إلى نشوءِ نزاعٍ قضائي بين المؤجِّرين والمُتَأجِّرين للحج، حول ما يستحقه المتأجِّرون من أجرة، وقد حُكِمَ لهم بثُلْثِها.
وفي العام الذي يليه بلغ الحُجاج إلى الطائف، فتلقاهم أميرُ الطائف الوهابي عثمان المضايفي، ووَسَمَهُم بـ(المشركين)، ومَنَعَهُمْ من الوصول إلى مكة، فعاد بعضهم بدون حج، وتَسَلَّلَ كثيرٌ منهم إلى مكة من فجاجٍ بعيدة وطرُقٍ متعرِّجة، وكان أولئك الوهابيون يكفّرون اليمنيين على ذلك النحو على الرغم مِن انتشار الحركة الحديثية السُّنِّية في صنعاء ومدن اليمن في ذلك الوقت؛ وكان أمير الدرعية الوهابي قد أرسل دعاته إلى صنعاء «يَدْعُون إلى التوحيد، ويُنْكِرُونَ الشِّرْكَ» على حدِّ زعمهم، وبقوا فيها حتى سنة 1223هـ، ومع ذلك كلِّه فإنه لم يُتْرَكْ حجاج اليمن في حج عام 1222هـ وشأنهم، بل استدعاهم أمير الدرعية الوهابي سعود بن محمد بن عبدالعزيز (ت1229هـ) في منى، وأخذ على كلِّ فردٍ منهم العهد بأن يكونوا على الكتاب والسنة، على حدِّ زعمه، وأثبَتَ أسماءَهم في سجلاته، وهدّدهم بغزو صنعاء.
وهكذا يتضح أن عداءَ الوهابيين السعوديين لليمنيين خصوصا، وللمسلمين عموما، عميقُ الجذور، شديدُ الظهور، وأن جريمتهم في تنومة قد سُبِقَتْ بجرائم عديدة أخرى؛ الأمر الذي لا يجعل عدوانهم على الحُجَّاج في تنومة أمرا مستبعدا، ثم كان من الحكمة أن يتوقَّع اليمنيون عودتَهم للعدوان عليهم مرة أخرى، كما حدث في 2015م، وأن يُعِدُّوا العدة لذلك.
… وللموضوع بقية.