الإقتدار الإيراني في مُقابلة التردُّد الأمريكي
ميس القناوي
لم تكن هذه المرة الأولى التي تَعْمد فيها إيران إلى إسقاط طائرات تجسسية أمريكية اخترقت أجواءها، فمنذ قيام الثورة الإسلامية قامت بإسقاط ست طائرات “درونز” وسيطرة عليها، والتي كان آخرها إسقاط الدفاعات الجوية للحرس الثوري الطائرة الأمريكية المُسيرة الأفضل والأعقد والأغلى، والتي اخترقت أجواء محافظة هرمزكان فتم إسقاطها بمنظومة “سوم خرداد٣” الإيرانية، والتي كُشف عن تصنيعها، ودخلت الخدمة في وحدة الجو-فضائية للحرس في العام 2014.
منذ فرض “العقوبات” الأمريكية على إيران، وتشديدها بعد إعلان ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي في مايو عام 2018، ووصول “العقوبات” ذروتها بفرض عقوبات جديدة على قطاع البتروكيماويات في يوينو من العام الجاري، ومحاولة خنق إيران اقتصاديًا باستخدام اُسلوب تجفيف منابع صمودها الاقتصادي، ووصول إيران إلى نقطة اللاعودة في مواجهة الحرب الاقتصادية الأمريكية عليها، كان الموقف الرسمي الإيراني والذي جاء على لسان أعلى هيئة وسلطة قيادية في إيران، والمتمثلة بتوجيهات قائد الثورة السيد علي خامنئي برفض إجراء أية مفاوضات مع واشنطن في ظل الضغوط. وفي ظل التهدايدات الأمريكية كان الرد الإيراني حاسمًا بأن سياسة المجابهة والمواجهة والمقاومة هي السبيل الأوحد للرد على أي عدوان أمريكي.
هذا الموقف مثَّل عَزْم إيران للدفاع عن نفسها ومصالحها وبرامجها في ظل التردد الأمريكي الواضح في شن أي هجوم عسكري عليها، وبقيت المعادلة كما هي قائمة منذ قيام الثورة حافة الهاوية، بعلاقات لا حرب فيها ولا سِلم.
ما حدث بالأمس من إسقاط الطائرة الأمريكية أثبت أنّ إيران كان وما زال لديها جُرأة الدفاع الشرعي، وما حدث اليوم من تراجع ترامب على الرد على إسقاط الطائرة يثبت أن أمريكا لم يعد لديها جُرأة الهجوم العدواني، والذي كسر هذه الجُرأة تولُّد قناعة لدى الإدارات الأمريكية المختلفة؛ بأن إيران جادة وعازمة على الرد وبصرامة على أي إعتداء أو خطر يهدد سلامة أمنها وأراضيها ومصالحها الحيوية والإستراتيجية.
العالم لم يعد ملعبًا خالصًا للأمريكيين، وأصبح نفوذ أطراف دولية كروسيا والصين، وإقليمية كإيران وتركيا والتي يمتلك فيها كل طرف نفوذه وأجندته ومصالحه خاصةً فيما يتعلق منها بالشرق الأوسط، تزاحم أمريكا في المنطقة.
خلافًا حاداً في مجلس الأمن القومي الأمريكي، واختلافات جوهرية بين قيادات البنتاغون وبومبيو وجون بولتون ومايك بنس وترامب حول طبيعة الرد على إسقاط الطائرة المُسيرة. فما زلت قناعة ترامب بأن ممارسة مزيد من الضغط والحصار الاقتصادي على إيران، وعبر الإعتماد على عامل الوقت والزمن؛ كفيلًا بجلب الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات. وهذا مضمون الرسالة الأمريكية للإيرانيين عبر الوسيط العُماني والتي وصلت بعد إلغاء توجيه ضربة أمريكية إلى إيران، إلا أن صقور هذه الإدارة، وخاصةٍ جون بولتون الذي يحاول إطلاق شرارة الحرب، والرد الموسّع على إيران، فيما تبقى إحدى خيارات المواجهة مع إيران هو الرد المحدود باستهداف منصّة الصواريخ التي اطلقت صاروخها باتجاه الطائرة على سبيل المثال. إلا أن التجربة الأمريكية في سوريا، وغير سوريا، أثبتت فشل معادلة الرد المحدود، واتضحت شكليته المصطنعة للحفاظ على ماء الوجه والإبقاء على معادلة الردع قائمة، فالرد الأمريكي المحدود أو غير المحدود سيُجابه برد إيراني، وهذا ما يخشاه ترامب بانزلاق التوترات القائمة إلى حرب تهدد المصالح الأمريكية في الخليج الفارسي، وعدم الرد سيجعل من الأمر انتصارًا لإيران.
إيران تُمسك بخيوط السياسة الإقليمية في المنطقة، وتوظّف دورها الجيوسياسي جيدًا في حدوده الطبيعية، فإيران لديها القوة، كما لديها القدرة على إستعمال تلك القوة عند اللزوم؛ لتحقيق مكاسب سياسية بوسائلها المناسبة، كما لديها فائض المرونة لتحمُّل عواقب الأمور.
ما تبين للأمريكيين على الرغم من محاولة استقصاء الواقع العسكري الإيراني جيدًا من قبل الاستخبارات الأمريكية أن لدى الحرس الثوري والجيش الإيراني منظومات دفاع جوي رادعة لأمريكا و”إسرائيل” وحلفائهما من دول الإعتدال العربي، وأن حرمان إيران من أس-٣٠٠ وأس-٤٠٠ الروسي لم يُعطّل، أو يُوقِف عجلة الابتكار والصناعة العسكرية الإيرانية؛ بل حفّزها لإنتاج وتطوير منظومات دفاع جوي متقدّمة محلية الصنع.
إيران دولة إقليمية هامة في الشرق الأوسط، وتعرف كيف توازن بين الأعمال الدبلوماسية والأعمال الخشنة والتحالفات لتحقيق توازن يُحقّق لها أهدافها. على خلاف تلك الدول ذات الترسانة العسكرية الأكبر، والمنضوية تحت عباءة “تل أبيب” -واشنطن. وحلفاء إيران في المنطقة يعرفون صلابة موقفها، وثبات نهجها الإستراتيجي مما سوف يتأكد ويتعمّق دورها الإقليمي في المنطقة أكثر فأكثر، في مقابلة إنحسار الدور الأمريكي، وإنحسار دور حلفائه كلما تعددت نقاط الانتصار الإيراني وثباتها وصمودها مع بقية الحلفاء وخروجها من دائرة “العقوبات” منتصرة بحفاظها على برنامجها النووي والصاروخي وعمقها الإقليمي في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن.