من زرقاء اليمامة إلى بن سلمان
مقالات | 25 أبريل | مأرب برس :
بقلم / أحمد فؤاد*
كثيرة هي فترات الاضطراب التي مرت بالمنطقة العربية، في العصر الحديث وعقب اكتشاف النفط، وتزايد الاعتماد الدولي عليه، ومع نشوء وتطور الصناعات الكثيفة في جنوب شرق آسيا، لتضيف إلى عبقرية الموقع أهمية مستجدة، جعلت منها هدفًا مستمرًا ومطلوبًا من القوى المتربعة على قمة العالم.
في فترة التحرر الوطني الهائلة في ستينات القرن المنصرم، ومع الضربة الصهيونية الكاسحة للدول العربية، التي كانت تعادي الولايات المتحدة، وتحمل ألوية المقاومة، خرج علينا أحد أبرز شعراء العرب ومصر في العصر الحديث، أمل دنقل، بقصيدته البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، إحدى الدرر المكنونة للشاعر المنبوذ من الأنظمة دومًا، حد تلقيبه بأمير شعراء الرفض.
رغم قربه من المزاج الشعبي العربي، لا يفضل الإعلام الحكومي –وحتى الخاص- الاقتراب من أمل دنقل، الذي نهل من التاريخ العربي القديم، وكانت أبياته دومًا مرصعة بما يعد تاريخًا للجزيرة العربية وقبائلها وحكاياتها، الكل يريد ويرغب في إسكات قصائده، وعدم النظر إليها، أو التعلم مما جرى، ويجري.
القصيدة التي حيكت بالكامل من حكاية زرقاء اليمامة، المرأة العربية النجدية التي ترى على بعد أيام ثلاثة، وتقول أكثر الحكايات شيوعًا عنها، إنه في إحدى الحروب استتر العدو بفروع الأشجار وحملوها أمامهم، فرأت زرقاء اليمامة ذلك فأنذرت قومها فلم يصدقوها، فلما وصل الأعداء إلى قومها أبادوهم وهدموا بنيانهم، وقلعوا عيني زرقاء اليمامة، وسميت زرقاء اليمامة بهذا الاسم لزرقة عينها، وقديمًا ضرب العرب المثل بزرقاء اليمامة فيقال “أبصر من زرقاء” لجودة بصرها ولحدة نظرها، ويقال إن اليمامة اسمها وبها سميت بلدتها اليمامة.
القارئ الفطن للحكاية، يدرك أنها تتحدث عن قوة بصيرة وليست حدة بصر فقط، المرأة التي لقبها “دنقل” في قصيدته بالعرافة المقدسة، ممسكًا بطرف خيط يشده إلى المعنى الحقيقي للرواية القديمة، التي سقط –أو أُسقط- عنها كل معنى حقيقي، وباتت أقرب لروايات الأطفال، التي لا يصدقها أحد، لكن الغالبية تستمع بها.
أجاد “دنقل” ربط عبرة الماضي بهزيمة الحاضر –النكسة- معتبرًا أن الخوف على الشعوب العربية ليس دائمًا من عدو خارجي، بل من أعداء الداخل، من يقودون ويحملون عصا القيادة، ويأتلفون برأي المنافقين والمتملقين الأذلاء، فيضيعون البلاد ويدمرونها، قبل أن تقع واقعة المعارك الفعلية.
الشخصية المبصرة المقدرة للعواقب تحمل إلى قومها التحذير تلو التحذير، من عدو يقترب، لا قبل لهم به، وتقول حكايتها المتنبئة على مدى ثلاث ليالي، عن الخطر المحدق، لكن القوم كانوا في غيهم يعمهون، لم يرغبوا في تصديق الكارثة المستقبلية، وزادوا بعزل إيقونة قبيلتهم، لإسكات صوت حق، يريد الإصلاح ما استطاع.
القائد المغتر برأيه، الأسير لمدح رخيص من جماعة المصالح والمنافع، لا يريد أن يرى أن هناك شرًا يقبل، وعالم يتغير، لم يعد يقبل بمغامرات القرون الوسطى، وشعوبًا عربية باتت صاحبة ثأر دموي مع المملكة السعودية، ونفطًا تقل أهميته، ومنابعه ناضبة طال الزمان أم قصر، وموازنة تجتاحها عوامل العجز وسوء الإدارة، وجبهة داخلية تنقسم على نفسها، بفعل إصلاحات ذات صبغة غربية، تقوض أسس المجتمع، وتهزه بعنف.
حرب اليمن التي يخوضها الأمير محمد بن سلمان، طمعًا في نصر عسكري، انقلبت بعد سنوات خمس من التدمير والجرائم إلى حرب استنزاف للاقتصاد السعودي والأمن، وتهدد بتفريغ دور المملكة داخل العالم العربي من عوامل ريادته وقوة دفعه الطبيعية، وهي تبدو الآن أكثر من أي وقت مضي، حرب عبثية، لا أهداف لها أو فيها، وحين تجنح سفينة الوطن إلى هذا الوضع، فمن الأفضل وقفها، مهما كانت الخسائر الآنية، بدلًا من كلفة الانتقال من الهجوم هناك إلى الدفاع هنا، وهذا إن حدث يعني النهاية المحتومة.
وبعد اليمن وتفتيت وحدة الخليج بحصار بلا هدف أيضًا على قطر، اتجه إلى السودان وليبيا، اللتان باتا أهدافًا لتدخلات مفتوحة، من حلف عربي يضم الإمارات ومصر إلى جانب بن سلمان، ويريد تنصيب حكومات موالية، أو على الأقل متعاونة معه، على جثث وأشلاء الشعوب العربية.
الشعوب لا تهزم في ميادين القتال يا وزير الدفاع، قد تنهزم الجيوش وتتراجع، لكن من قال أن شعبًا قد يترك وطنه ويرحل أمام المال والسلاح وجماعات المصالح الموزعة في كل بلد عربي، ما سيحدث هو أن الحلف سيزرع المزيد من الكراهية للمملكة، تفوق الموجود أصلًا بعد التدخلات في بلدان أخرى مثل سوريا ومصر والعراق.
نهاية الحكاية كانت ألمًا يليق بقوم مستهترين، أضاعوا فرصة النجاة وتعديل أوضاعهم، وتكالب عليهم أعدائهم، فأبادوهم واسترقوهم، وزادوا بخرق عيني “زرقاء”، لتموت بعدها بأيام، مقهورة على حال قومها وحالها، بعد الخراب التام.