تصحيح علاقتنا بالقرآن
مقالات | 10 يونيو | مأرب برس :
دعا السيد حسين الحوثي إلى إعادة تصحيح نظرتنا وعلاقتنا بالقُـرْآن من عدة نواحي:
أوَّلاً: إعادة القُـرْآن بصفته الكلمة السواء كمرجعية مركزية، وإسقاط كُـلّ المرجعيات والمصادر الثانوية، نصية وغير نصية.
ثانياً: إعادة العلاقة بالقُـرْآن إلى ما كانت عليه في التجربة الأولى، فعهد النبي علاقة استماع فاتباع وليس باعتباره نصاً دينياً مفتوحياً وغامضاً يحتاجُ لتدخل خبراء متخصّصين في فك شفرات النص القُـرْآني.
ثالثاً: مراجعة مناهج المعرفة الدينية وإعادة المعرفة الدُّنية إلى بساطتها على أساس أن القُـرْآنَ في الأصل خطابُ هداية لا يجد المخاطب العادي صعوبةً في فهم معانيه ولا يحتاج لمدارك ذهنية عالية لفهم رسالته، ويكفي أن نعرفَ أساليبَ العرب في التخاطب وتحريرها من التعقيد الذي لحق بها بفعل عواملَ متعددة وحوّلها لعوائقَ معرفية تحول بين القارئ وبين فهم معاني القُـرْآن.
رابعاً: تغيير نظرتنا لمضمون رسالة الخطاب القُـرْآني من كَوْنها أحكاماً قُـرْآنيةً إلى تقديم منهج قُـرْآني.
لكن قبل أن نتناولَ ما سبق ولتتضح خلفية هذا الموقف من المهم إدراك التحوّل الذي حصل في علاقة المسلمين بالقُـرْآن مضموناً ومنهجاً.
في زمنِ النبي صلي الله عليه وآله وسلم، كانت الثقافة الدينية ثقافةً عامةً، سواء في رسالتها أو في المستهدفين بها أو في أساليبها أو في أماكن تعليمها، فلم يكن المخاطبون بالقُـرْآن على عهد النبي يجدون صعوبةً في فهمه، وَالدين لم يأتِ على شكل معارف متخصصة يتخذ النبي زاويةً خَاصَّـة في الجامع أَوْ في مكان مخصص لإلقاء الدروس الدينية على نخبة يمتازون بمداركَ ذهنيةٍ تؤهِّـلُهم لأن يصبحوا خبراءَ في فهم رموز الدين المحتواة في القُـرْآن ويناقش معهم قضايا الوجود وفلسفة الخلق وغوامض الحياة والفقه المقارن على نحو ما يفعلُ رجال الدين والمعلمون والفلاسفة.
كانت رسالة الدين جملةً من الإرشادات والتوصيات الإلهية يسمعونها من النبي ويتداولونها مشافهة بلسان عربي يستخدم نفس أساليب العرب في التخاطب يتلقاها عموم الناس ويتعلمونها في الأماكن العامة المساجد والبيوت والساحات والأسواق والحج.
ونتيجةً لغياب المُؤَسّس بوفاة النبي تحولت علاقات الناس بالقُـرْآن، فبعد اللحمة الحاصلة بين شخص النبي وقول الله ومـراده، كانت علاقةُ الناس بالقُـرْآن علاقةً إنصات واتّباع، وبعد أن كان وجود النبي ضمانةً لعدم إسَاءَة فهم أَوْ استعمال النص القُـرْآني استحال نصاً مفتوحاً، يضع نفسه بين الناس ليقرؤوه ويفسروه ويؤولوه، بدون دفاعات ذاتية تمنع التلاعب بالنصوص.
ومن ناحية أُخْـرَى، التحولُ في ماهية الوحي الإلهي أَوْ القُـرْآن من الطبيعة الخطابية الشفهية إلى نص مكتوب منفصل عن سياقاته الزمانية والمكانية. هذا الفراغ وما نتج عنه فرض على المسليين التماس مصادر ثانوية نصية وغير نصية لإزالة أي سوء فهم للنص القُـرْآني والاستهداء بشهادات الجيل الأول والثاني في حسم الخلاف حول معاني القُـرْآن والاستعانة بنصوص ثانوية لتغطية المستجدات، والاستعانة بالرأي والمقايسة العقلية والتماس مشابهة بين الوقائع المستجدة وَوقائع عصر التنزيل وغيرها من الآليات التي تحوّلت مع الأَيـَّـام إلى مصادرَ وقواعدَ تأخُذُ صفةَ القداسة، وفتحت البابَ لتوظيفها من قبل المتصارعين لكسب التأييد ومنح الشرعية.
إضَافَةً لذلك القفزة التي حصلت للعقل العربي والثقافة العربية، خَاصَّـة بعد عصر التدوين والتحوّل الثقافي والحضاري ونتيجةً لتطور ووفرة وسائل الكتابة وتوسع المعارف والتواصل الحضاري والتي أدت في مجملها لنقلِ العرب من الثقافة الشفهية إلى الثقافة النصية، ومن حضارة سمعية إلى حضارة بصرية وما فرضته من تطور وتعقيد على مناهج تحليل وقراءة النصوص الدينية أتاح مجالاً للتلاعب بالنصوص، وتحولت اللغة العربية من التعلّم بالسماع والدربة إلى قواعد منطقية جافة وتأثرت علوم اللغة وأصول الفقه كآليات تنظم المعرفة الدينية وعملية استنتاج المعاني التي يحتويها النص القُـرْآني بالمنطق الأرسطي وقواعده كآليةٍ تنظم المعارف العقلية وتحميها من الخطأ وما تبعه من تعقيد في المعرفة الدينية المتخصصة توزع الدين إلى أنساق عقدية وأُخْـرَى تشريعية وإلى مستويات أصلية وفرعية وأعمال البر إلى إلزامية وغير إلزامية ونحوها.