القدس بين الدبلوماسية والانتفاضة الشعبية
مقالات | 13 ديسمبر | مأرب برس :
بقلم / فاطمة زعيتر :
في خطوة تصعيدية استفزازية تمس أحد أهم مقدسات المسلمين والمسيحيين في جميع أصقاع الأرض، يعود الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب للأحادية والتفرد بالقرارات وينسف الدبلوماسية المتعددة الأطراف بعرض الحائط ليعلن القدس عاصمة لـ “إسرائيل”، ليكون هذا الإعلان بمثابة دعمٍ أميركيٍ لامتناهٍ لـ “إسرائيل”، ورفضٍ لأحقية الشعب الفلسطيني بالقدس على غرار ما فعله البريطانيون في زمن الانتداب. فماذا عن الرباعية الدولية والمنظمات الدولية والمواثيق والقرارات التي أقرت بحق فلسطين والتي ظلت تعتبر القدس أرضًا محتلة ولم تعطِ “إسرائيلَ” الحقَّ في اعتبارها عاصمةً لها؟ وأين هو قرار الرئيس الأميركي من الاحترام لهذا المواثيق والقرارات في زمن التعددية القطبية؟
يأتي هذا القرار الصلف من دونالد ترامب تنفيذًا لقرار الكونغرس الأميركي الصادر في 1995، مهددًا بذلك السلام المنشود الذي تتغنى بها الإدارة الأميركية. يضرب ترامب كُلّ الشعارات التي تدعيها الإدارة الأميركية، من حفظ للديمقراطية والسلام، في حين تصف الأخيرة نفسها على أنها عرابة للسلام على الساحة العربية، حيث عمد الرؤساء الأميركيون المتواترون على السلطة إلى تظهير الاهتمام بقيادة المساعي والجهود الدولية للتوصل إلى التسوية الصعبة، فعمدوا إلى تأجيل تنفيذ هذا القرار. كما قاموا بتنشيط عجلة المفاوضات وعملية السلام عبر العديد من المحاولات والخطوات الدبلوماسية على المسرح الدولي للادعاء بدعم أي حل شامل ممكن أن يتوصل إليه الجانبيين الإسرائيلي والفلسطيني، مستعملين طريقة النعامة في إخفاء الدعم والانحياز الشامل والتام لإسرائيل. ورغم كُلّ ما أوردنا، فإن أيّاً من الرؤساء لم يقدم على هذه الخطوة المتهورة التي ستحول مسيرة المفاوضات إلى نقطة الصفر، وربما ستقلب السحر على الساحر فيكون في هذا القرار خير عظيم لقضية ناهز عمرها عقود سبع ومفاوضاتها عقود ثلاث ولم تصل إلى حل.
لقد ضمت إسرائيل القدس في عام 1980 وأعلنتها عاصمتها “الأبدية والموحدة”، في خطوة لم يعترف بها المجتمع الدولي في ذلك الحين، ومن ضمنه الولايات المتحدة الأميركية، الحليف الأكبر لإسرائيل، حيث يعتبر المجتمع الدولي القدس الشرقية مدينة محتلة، فتتواجد معظم سفارات العالم في “تل أبيب”. إلا أن الكونغرس الأميركي عاد وأقرّ قانونا ينص على “وجوب الاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” في عام 1995. وجاء في القرار “منذ عام 1950 كانت مدينة القدس عاصمة لـ” إسرائيل”. وطالب القانون بنقل السفارة الأميركية من “تل أبيب” إلى القدس المحتلة.
وإن يكن القرار ملزما فإنه يحتوي على بند يسمح للرؤساء بتأجيل نقل السفارة لستة أشهر لحماية “مصالح الأمن القومي”. ومنذ ذلك الحين قام كُلّ من بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما بانتظام، بتوقيع أمر تأجيل السفارة مرتين سنويا. وقام أوباما بتوقيع أمر تأجيل النقل في نهاية ولايته في ديسمبر/كانون الأول 2016. أما اليوم فقد جاء ترامب، ليأخذ هذا القرار المتهور، على نحو باقي قرارته العتيدة، ليعرقل المساعي الدولية ووضع عثرة كبرى في مسيرة السلام المنشودة.
المؤسف أن الدول العربية لم تتحَـرّك قبل اتخاذ القرار ولا بعده، وكذا المجتمع الدولي الذي لم يستنكر إلا بعد أن أعلن ترامب قراره، وحتى السلطة الفلسطينية لم تحَـرّك ساكنًا قبل اتخاذ القرار، وإن تحَـرّك رئيس السلطة محمود عباس بعد قرار ترامب وصرّح قائلًا إن ذلك “سيُقضى على عملية السلام”. إلا إن هذه المواقف الرسمية للسلطة الفلسطينية التي اعتاد عليها الشعب الفلسطيني والعربي والإسلامي هي مجرد كلام لا يمكن أن يتم التعويل عليه.. فالرئيس الأميركي ما كان ليقدم على هذه الخطوة الجنونية لولا جميع أوراق الاعتماد العربية التي قدمته إليه. بالإضافة إلى الأخطاء التي ارتكبها المفاوض الفلسطيني سابقا في طريق المفاوضات والتنازلات المجانية التي قدمت على طبق من ذهب للكيان الصهيوني الغاصب، منذ اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بذلك الكيان، ومن ثم مقررات مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو السريَ المخزي والتي جاءت نتيجة التخاذل العربي..
يمكن القول أن ما أقدمت عليه السلطة “يوم 13 ديسمبر 1988 أمام الدورة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة في جنيف على الاعتراف بحق دولة الاحتلال الإسرائيلي بالوجود القائم على اغتصاب الأرض العربية، ومنها الأرض الفلسطينية، ودون اتفاق على استقلال شعب فلسطين وحقه في تقرير المصير، قد شكل تفريطًا في أهم ورقة تفاوضية يمتلكها الشعب الفلسطيني في الشتات وفي الداخل المحتل.
أما اليوم فإن القبول بمثل هكذا قرار يعادل ذلك الاعتراف بمشروعية الاحتلال للكيان الغاصب، والتمسك بالمفاوضات يعني قبول ما تقوم به الإدارة الأميركية والتنازل عن أصل القضية المتمثل بالقدس، فاستمرار المفاوضات يعني الرضوخ لمطالب أميركا و”إسرائيل”، ويعني التنازل عن القدس في أي مفاوضات قادمة؛ لأن السقف الإسرائيلي سيكون التفاوض فيما بعد القدس عاصمة للكيان
لذلك فإن الأهمية الكبرى تبقى للالتفاف الشعبي والرسمي مع فلسطين وليس للتفاوض، على أمل التحَـرّك من كُلّ من يشعر بمسؤولية تجاه قضية القدس والأقصى، من حكومات عربية وإسلامية وشعوب متضامنة لم تذهب عنها نخوة الدفاع عن القضية الأُم، ولم تضيع البوصلة بعيدًا عن كُلّ أولئك المتخاذلين والمتواطئين الذين أكملوا مسيرة أسلافهم في بيع فلسطين واليوم يبيعون القدس ويدفعون ثمن مناصبهم وكراسيهم لجبابرة هذه العصر الذين لم يسلموا من مَسٍّ من الجنون.
* نقلًا عن موقع العهد اللبناني