كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا
منوعات | 17 نوفمبر | مأرب برس :
“يتمثل الهدف الرئيس من كتاب تغيّر العقل في إستكشاف الطرق المختلفة التي يمكن أن تؤثّر بها التقنيات الرقمية ليس فقط في أنماط التفكير والمهارات المعرفية الأخرى ولكن أيضاً في نمط الحياة والتقافة والتطلعات الشخصية”.
هكذا توضح الكاتبة سوزان غيرنفيلد في كتابها “تغيّر العقل – كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا”، والذي ترجمه إلى العربية إيهاب عبد الرحيم علي، ونشرته “سلسلة عالم المعرفة” في الكويت.
تبحر الكاتبة في الفكرة الرئيسية للكتاب -وهي تأثير التقنيات الرقمية على الدماغ البشري من حيث أنماط التفكير الرئيسية عند الإنسان من خلال عشرين فصلاً تعرض فيها أهم ما توصلت إليه في نتائج تأثير التقنيات الرقمية على الإنسان سلوكياً ومعرفياً وتغيّر هوية الإنسان وتغيّر العلاقات الإنسانية وجعلها إفتراضية حتى في المشاعر العادية.
تبدأ سوزان غرينفيلد الفصل الأول من الكتاب بفكرة كيف وصل تغيّر الدماغ البشري بسبب التقنيات الحديثة لتكون ظاهرة عالمية ليست مقتصرة على دولة دون أخرى أو مجتمع دون آخر، فشبهت هذه الظاهرة بظاهرة تغيّر المناخ كظاهرة حديثة عرفتها جميع المجتمعات خلال الثلاثين سنة الأخيرة من حيث نتائجه والبدائل الطبيعية لمصادر الطاقة، بعيداً عن المصادر التقليدية التي قامت بتدمير المناخ. فكأنها تريد أن تصل إلى نتيجة أن تأثير التقنيات الحديثة وصل فعلاً لتأثير المصادر التقليدية للطاقة على المناخ.
واستعانت الكاتبة بخطاب الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الذي ألقاه في عام 2004 في ولاية كولورادو وكان يتحدث فيه عن مراحل تقسيم الحضارة وهي العزلة ثم التفاعل ثم التكامل. وقد أعجبت الكاتبة بفكرة التكامل والتي أذابتها التكنولوجيا الحديثة وجعلتها أكثر فعالية من حيث تبادل المعلومات، لكن في الوقت ذاته زادت من سهولة وحجم الحروب بين الأمم وإرتفاع وتيرة العنف العالمي.
وتنتقل الكاتبة في الفصل الثاني لفكرة إمتلاك البشر القدرة على التكيّف بصورة أفضل من أي نوع من الأحياء الأخرى، وبخاصة فيما يتعلق بالبيئات المحيطة وما يظهر فيها من اختراعات قد تؤثر على مصائر وحيوات البشر، مثل ظهور اختراعات ثورية تقلب حياة البشر رأساً على عقب. وقد عددت الكاتبة هذه الاختراعات مثل اختراع غوتنبرغ للطباعة ثم اختراع الكهرباء والمرحلة التالية لها من اختراع بعض الأجهزة التي أثّرت في حياة الإنسان مثل التلفاز.
وضربت غرينفيلد أمثلة على تأثير التكنولوجيا على الإنسان بشكل مباشر مثل ما حدث لعمال بريطانيا الذين شكّلوا جماعة تدعى اللوديون والتي قامت على سبيل المثال باقتحام مصانع النسيج وحطمت الآلات الحديثة، لأنها قامت بعملهم ومن ثم تم الإستغناء عنهم. وتنتقل الكاتبة سريعاً إلى تأثير التلفاز على أدمغة الأطفال وبُعدهم تدريجياً عن القراءة واللعب في الهواء الطلق وتربيتهم في تربية تملؤها العزلة.
وكما فعل التلفاز مع الصغار، فإن كثرة الشاشات الرقمية وإنتشار الهواتف الذكية جعل من إدمانها مفروضاً على الكبار أيضاً. فبنظرة بسيطة على الإحصائيات التي ذكرتها غرينفيلد في كتابها من التأثير اليومي المباشر للهواتف الذكية على الإنسان توضح فكرتها في التأثير السيء. فـــــ79% من مستخدمي الهواتف الذكية يتفحصون هواتفهم بعد الاستيقاظ فوراً، حتى في أوقات الراحة يستخدم المستخدم بعض التطبيقات مثل يوتيوب أو سناب شات ليرضي نفسه في الترفيه، أو التأكد من حساب الفيسبوك حتي لا تفوت فرصة متابعة الأخبار.
كما نوهت الكاتبة بالتأثير الاقتصادي، حيث بيّنت آخر إحصائية للبيع في الولايات المتحدة أن 10% من عمليات بيع التجزئة جاءت عن طريق الانترنت، وليس فقط من تأثيرات البيع والشراء، بل في المسائل الاجتماعية مثل الزواج والإرتباط العاطفي، فشكّلت نسبة لا بأس بها من الزيجات بين عامي 2005 و2012 جاءت عن طريق الانترنت.
كيف يتغيّر الدماغ؟ استخدم مهارتك وإلا فستفقدها
تصل الكاتبة إلى ظاهرة تعدد الأوجه – كما أطلقت عليها – وهي الظاهرة السلبية لاستخدام الانترنتو خاصة مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر، حيث أظهرت دراسات استقصائية على مستخدمي هذه المواقع أنهم يتعرضون بعد فترة من الاستخدام إلى إنفصام في الشخصية فيظهرون الجانب المشرق من حياتهم على هذه المواقع وتعطيهم الجرأة على قول أو فعل ما لم يكونوا قد اعتادوا عليه في حياتهم الواقعية. أو بمعنى آخر أصبح لكل مستخدم حياة افتراضية وحياة أخرى واقعية وغالباً ما يهرب من الواقعية إلى الإفتراضية.
تؤكد الكاتبة من خلال الإحصاءات أن ألعاب الفيديو هي الأخطر على الأطفال بسبب العزلة اليومية التي يعتادون عليها، فأظهرت الدراسات التي أجريت على الأطفال أن عدد ساعات اللعب الطبيعي قد انخفضت بشكل كبير مما أثّر على القراءة والأنشطة الطبيعية الأخرى، وبالتالي أثّر على ذكاء الأطفال بشكل كبير.
ولا غرو إذا قلنا إن غرينفيلد قد برهنت على وجود ظاهرة تعدد الأوجه في مسألة القراءة الورقية والالكترونية من حيث التأثير على الدماغ البشري، حيث برهنت على أن القراءة الورقية هي أكثر إيجابياً من القراءة الالكترونية التي تخزّن صوراً ورسوماً بدلاً من الكلمات، وهو ما يغيّر نمط التفكير بين الأشخاص المستخدمين لكلتي الطريقتين.
تنتقل الكاتبة إلى فكرة أخرى وهو كيف يتغيّر الدماغ البشري سواء تشريحياً أو عملياً من ناحية نمط التفكير، حيث شرحت كيف يعمل الدماغ تشريحياً من خلال تجربة العلماء في المعامل على الأدمغة التالفة ومقارنتها بالسليمة من حيث استخدام المهارات وغيرها من الوظائف، ومن ثم استخلصوا نتائج عن تشريح الدماغ البشري وكيف يعمل بكفاءة أثناء تعلم واكتساب المهارات المختلفة.
تؤكد غرينفيلد على أن استخدام المهارات بشكل مستمر هو العامل الأهم في كيفية عمل الدماغ والمحافظة عليه دوماً، حيث يتغيّر الدماغ بشكل بنيوي في أيام قلائل بعد التدريب على مهارة معيّنة مثل قذف الكرات أو تعلّم الموسيقى أو اللغات أو ممارسة الألعاب الرياضية، بما يعرف بتغيير المادة الرمادية في المخ ونمو العضلات والناقلات العصبية ومن ثم تزداد مساحة الإتصال بالخلايا الدماغية الأخرى.
وعلى الجانب الآخر؛ يعاني الأفراد الذين يعانون من العزلة والإكتئاب من تغيّرات كبيرة في الدماغ بشكل سلبي، وذلك بسبب إنكماش الناقلات العصبية في المخ مما لا يشكّل مساحات جديدة في المنطقة الرمادية. وهذا يفسّر عدم تقبّلهم للأشياء الجديدة أو التعصب للفكرة الواحدة وهو ما تسمّيه الكاتبة بالتفكير الأحادي الجانب.
الشبكات الإجتماعية والعقل
خصصت الكاتبة جزءاً من حديثها عن الدماغ البشري في تحوله إلى عقل أو بمعنى آخر إلى وعي، وذلك عن طريق الهوية التي يكتسبها الإنسان عند الميلاد في طريقة الأكل واختيار الألوان والأصوات وغيرها من الأمور العقلانية لكل إنسان، حيث قام العلماء بتحليل الهوية وربطها بعلم أعصاب الدماغ البشري والناقلات العصبية المسؤولة عن العمل داخل المخ كما أشارت الكاتبة سابقاً. أو بمعنى آخر فإن “العقل هو إضفاء طابع شخصي على الدماغ عن طريق اتصالية عصبوناته الفردية”.
وقارنت غرينفيلد العقل بمفهوميه المعنوي أو التشريحي، وأشارت إلى أنه يمكن أن نفقد عقولنا أو هويتنا أو تفكيرنا في حالات متعددة، منها تعاطي المخدرات التي تحدث خللاً في الناقلات العصبية يؤثّر بلا شك في التفكير والهوية، مما يجعلنا كائنات غير عاقلة.
فالمقارنة بين العاقل وغير العاقل تتمثل في وجود الوعي في التجمعات الصغيرة والكبيرة على السواء وفي وجود أهداف للعقل وإحساس بالزمن سواء الماضي والحاضر والمستقبل ووجود المشاعر أو التفكير وأيهما ينتصر على الآخر. فغير العاقل يمتلك المشاعر فقط، أما العاقل فيوجد لديه التفكير مع المشاعر مع وجود إدراك معرفي بالمؤثّرات الجوهرية داخل الإنسان.
تصل الكاتبة إلى الذروة عندما تتحدث عن إرتباط العقل والوعي والهوية بالشبكات الإجتماعية المختلفة، حيث عرضت بعض أنواع الشبكات الإجتماعية. لكنها ركزت جهودها على الفيسبوك من حيث عرض فكرة تكوين الموقع الأشهر بين الشبكات الإجتماعية من خلال مقتطفات هامة من أقوال مؤسس الموقع مارك زوكيربيرغ، ومن خلال كيفية عمل الموقع وإرتباطه بالمشاعر الشخصية حيث صنّفت المستخدمين تصنيفاً خاصاً. فمنهم من يهرب من حياته الواقعية بما فيها من مشاكل وضغوط إلي تكوين علاقات افتراضية، وثمة أشخاص يرون أن الفيسبوك يلعب دوراً تكميلياً لحياتهم الواقعية، أو بسبب الدافع القوي بالشعور بالوحدة فيلجأ عدد لابأس به من الناس لإستخدام فيسبوك.
كما أشارت غرينفيلد في مجمل حديثها في تلك النقطة إلى الإحصاءات الخاصة بتقليل عدد ساعات التواصل الإجتماعي الحقيقي وإنخفاضها بمرور الوقت وكيف حلّ فيسبوك والمواقع الاجتماعية الأخرى محل العلاقات الواقعية. وخلصت الكاتبة إلى نتيجة هي “أن الأشخاص الأكثر توتراً وقلقاً هم الأكثر استخداماً لفيسبوك والمواقع الأخرى”.
وبالمثل يمكن القول إن الفيسبوك أو الشبكات الاجتماعية عموماً تؤث!ر على هوية الإنسان بشكل واضح، وذلك من خلال استخدام بعض الأسماء المزيّفة أو اختراع هوية مزيفة غير الحقيقية. كما تشير غرينفيلد إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة الفيسبوك تعزز النرجسية وأصبحت مكاناً مثالياً للأشخاص الذين يعانون من تدنٍ في شخصياتهم، حيث يوفر العالم الافتراضي ما لم يستطيعوا الحصول عليه في الحقيقة، من خلال عمل حياة افتراضية رائعة ومثالية لأشخاص قد يبدون أنهم غير ذلك على الإطلاق في الحقيقة.
وفي دراسة بريطانية أجريت على شريحة الأطفال في كل من إنجلترا وويلز واسكتلندا، تبين أن عدداً لا بأس به من الأطفال المستخدمين للفيسبوك يكذبون فيما يتعلق بأسمائهم أو أعمارهم الحقيقية، وتزيد النسب مع الوصول إلى سن المراهقة، حيث أجريت نفس الدراسة على شريحة المراهقين فوجدت أن نسبة كبيرة منهم يستخدمون الانترنت لتكوين حياة بديلة وغير واقعية مفادها المغامرة وإستخدام هويات كي يبدوا من خلالها أكثر وقاحة عما هم في الواقع.
أما عن التواصل بين الأشخاص عبر هذه الشبكات، فقد تعرضت الكاتبة إلى المشاعر السلبية كالغيرة والحسد بين الأشخاص، أو عدم الشعور بالأمان المعنوي عند الأشخاص، وذلك من خلال دراسة أجريت عام 2013 تُبيّن أن مزيداً من الأشخاص يستخدون مواقع التواصل من أجل خيانة أزواجهم والإنفصال والطلاق بسبب تعرّفهم على أشخاص غير أزواجهم، أو وجود نسبة من الأشخاص الذين يتجسسون على شركائهم العاطفيين بمقدار مرتين يومياً بحسب الدراسة.
كما أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تعمل على زيادة معدل “التنمّر” والعنف عبر الشاشة، من استخدام الألفاظ الحادة والعنيفة من بعض المستخدمين في محاولة منهم لإظهار القوة والتي قد يفتقدونها في الحقيقة، حيث تقدم مواقع التواصل الاجتماعي وعداً متصلاً ومرغوباً ومحبوباً وتفسيرات خاصة بها عن الهوية والعلاقات الخاصة بطريقة لا يمكن تخيّلها عبر قرن واحد من الزمان.
إدمان ألعاب الفيديو وتأثيرها على الدماغ ونمط التفكير
تكمل غرينفيلد سياق فكرتها عن تأثير الشاشات على العقل البشري بالوصول إلى ألعاب الفيديو وإدمانها من قبل المراهقين والشباب بل والرجال والنساء في سن النضج، حيث تحاول الكاتبة من خلال عرض العديد من الدراسات النفسية أن تبرز أهم تأثيرات ألعاب الفيديو على الدماغ من خلال إفراز الدوبامين المسؤول عن الإثارة والنشوة في العقل مما يحدث تغيّرات جوهرية في نمط التفكير.
كما ينتج عن ألعاب الفيديو وإدمانها خاصة العنيفة منها إلى إنسحاب الشخص المستخدم من العالم الحقيقي تدريجياً إلى عالم مفاده تبّسط العالم وتعلق العواقب وتضخم ردود الأفعال ووضع أهداف واضحة. ويمكن إضافة هذا المخزون إلى إضافة الشيء الحاسم المتعلق بألعاب الفيديو الذي يجعلها هروباً قسرياً من إبهام وتعقيد العالم الحقيقي.
ومن المعروف أن كل شيء له مكاسب تأتي بتكلفة عالية في بعض الأحيان، فكما كانت الألعاب لها تأثيراتها النفسية على اللاعب. إلا أنها تعطيه بعض المهارات الخاصة غير المتوافرة عند غيره. فعلي سبيل المثال تعطي ألعاب الفيديو مهارات بصرية خاصة مع ربط هذه المهارات باليد، فيمكن لمدمني هذه الألعاب استخدام أيديهم مع أعينهم في كثير من الأحيان. بل تعطيهم قدرة خاصة على إتخاذ القرارات في المواقف الصعبة، كما تكون لديهم القدرة الفائقة على حل الألغاز، إضافة إلى أن تأثير تشتت الإنتباه على المستخدمين هو مجرد تكهنات في بعض الدراسات.
تختتم الكاتبة فكرتها الطويلة في هذا الكتاب بالوصول إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي أو الشاشات الرقمية قلبت الحياة الواقعية للإنسان وجعلته أكثر انفتاحاً عن ذي قبل. كما تشبّه غرينفيلد هذه المواقع بالتطور الكبير الذي حدث في الطب من إختفاء أمراض كانت ذي قبل. كما ركزت على تأثير محركات البحث مثل غوغل على نمط التفكير الإنساني وإتاحة المعلومات الغزيرة أمام الدماغ لإستخدامها وهو ما غيّر من تركيبة ونمط التفكير عند الإنسان الحديث.
وتؤكد الكاتبة على أن الفكر الإبداعي ينشأ من توفير بيئة ملائمة، فلا يمكن شراؤه مثلاً أو تنزيله من الانترنت، لكن لا بدّ من توفير البيئة المناسبة له وهو ما توفره في كثير من الأحيان التكنولوجيا الحديثة. لكن هذا الفكر الإبداعي سيصطدم بثورة هائلة على دماغ الإنسان قد تؤدي به إلي الضياع، وذلك بسبب تحكم الشاشات في الإنسان أكثر من تحكمه هو بها. حيث ستوفر نظارات غوغل الجديدة معلومات كثيرة أمام الإنسان عبر شاشتها من دون الحاجة إلى البحث أو استخدام الحاسوب المحمول التي تتطلب الكتابة من أجل إيجاد المعلومة. لكن نظارات غوغل ستكون قادرة على التحكم في دماغ الإنسان من خلال الشاشة فقط.
المصدر : الميادين نت .