’فاتورة’ سلامنا الزائف وحتمية الحرب المؤجلة
مقالات | 27 اغسطس | مأرب برس :
جيهان الزهيري*
اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها الرئيس السادات مع الكيان الصهيوني اسموها “السلام المُرّ ” ولا ادري لماذا يكون المُنتصر مُضطراً لمبادرة سلام جائر، ولا استوعب، لماذا يكون مُرّاً ؟ فحقيقة الأمر ان المُنتصر بتلك الحرب المشروعة هو الذي قام بالمبادرة، وهو الذي ابدى تنازلات، وهو الذي خسر نقاط تقدمه بحلبة المعركة الميدانية بتوقيعه لإتفاق قدم من خلاله سيناء المُسترَدة المُحررة “كرهينة” ببنود خنوع، وانبطاح.. قدمها المُنتصر لعدوه المنهزم، وهذا لا سابقة له بتاريخ المعارك، ولا بالتاريخ السياسي العالمي .. ومنحت مصر المُنتصرة، الحَبل لعدوها المُنهزم عسكرياً، لتطوق به حدودها الشرقية بسيناء، وتخنق به نموها الإقتصادي، وتُجرّف به قاعدتها الصناعية، وتُحوّل غريمها الأوحد “الكيان الصهيوني” إلى حليف، وتُبدد هزيمته العسكرية، وتحوله إلى نصر مُظفر سياسياً، ولوجوستياً، وامنياً، وفيما بعد اقتصادياً..
وظل بقاء أي رئيس بالحكم رهينة “الرضا الامريكي والقبول الإسرائيلي” طيلة اربعين عاماً من توقيع الإتفاقيه، لا تراوده مجرد نية الغائها، او حتى تعديلها، فكانت المعاهدة بحق هي “مذبحة التنازلات” كما اطلق عليها وزير الخارجية الأسبق (محمد ابراهيم كامل) الذي استقال ابان اعتراضه على الإتفاقية آنذاك ..
فبمجرد ابرام المعاهدة بين مصر، والكيان الصهيوني قد تم فصل مصر عن محيطها العربي، وفقدت مصر رصيدها كله بقيادة العالم العربي، وضيعت ايجابيات الوحدة العربيه التي بنى قواعدها، وشيّد اعمدتها عبد الناصر..
ومنذ ذلك المفترق التاريخي، والسياسي المصري إلى الآن في سنة 2017، وابواق القوى الناعمة لم تتوان عن تجريم العروبة، وتشويه الوحدة، وتسخيف فكرة حمل مصر لواء القيادة العربية، والتهليل والتكبير لبيع القطاع العام، وتجريف القاعدة الصناعيه باسم، تشجيع الإستثمار، والتخفيف عن كاهل الحكومة الأعباء، بالتزامن مع تسفيه فكرة الحرب، والتسويق لكل سلام، تحت أي عنوان، وبأي ثمن .. وبالفعل نجح هذا الفكر الممنهج في تفريغ مصر من دورها وقوتها، ومن كل ورقة ضغط استراتيجية تملكها!! . فبعدما كان كل شيء يمتلكه المصري من صنع يده، وبعد ماكان معدل التصدير يساوي خمسة اضعاف معدل الإستيراد، وبعد أن كانت مصر بستينات القرن الماضي تعد اكبر قاعدة صناعية في العالم الثالث، وبعد ما كانت مصر منارة العالم العربي بالفكر، والثقافة، والتنوير.. تم بيع القطاع العام، وجُرّفت القاعدة الصناعية بالكامل وحدث هبوط اقتصادي سريع وشنيع مُتلازماً مع الهبوط القيمي والثقافي والأخلاقي العام، وتشكل الوعي الشعبي المشوّه بشكل تراكمي على مدار عقود، فغرقت مصر بسياسات القروض، واعتاشت على الإعانات الخليجية التي لها ثمن ومُقابل، وصارت مصر أسيرة ومُحتلة ومُستعمرة من قِبل اكثر من طرف، واكثر من وكيل ، واكثر من عميل، وكان على رأس هؤلاء المُستعمرين… صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان نشرا البطالة والأمّية والمرض والجوع في مصر، بسياساتيهما، وشروطهما التي حملها الفقير وحده.
فسياسات الخصخصة التي كان من المفترض أن تؤدي إلى زيادة الإنتاجية ركّزت – بدلاً من ذلك – الثروة الاقتصادية في أيدي النخبة الحاكمة، وزادت الفساد وإفقار الطبقة العاملة، والطبقة المتوسطة، وعمّقت عدم المساواة في المجتمع ما ولّد شعوراً عميقاً بالظلم.. فصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، منظمتان تآمريتان بيد البنوك والشركات الغربية العابرة للقوميات تقوم بتنفيذ مخطط تدميري لاستنزاف ثروات الدول النامية بإشراف الولايات المتحدة الأمريكية، وبدعم وتنفيذ من قِبل الساسة والاقتصاديين الفاسدين في الدولة، فنجد بعد اربعين عاماً من توقيع الاتفاقية، وبرغم مزاعم السلام، واكاذيب توجيه، وتخصيص مقدرات، وثروات مصر نحو التنمية والبناء، والنهضه، والاستثمار بدلا من الحروب. استشرى الفساد الإداري والمالي والسياسي، فإنَّ حدّة العجز في الميزان التجاري قد تزايدت، وكذلك زاد الدَّين المحلي، واستمرت الديون الخارجية، وتدنّت نسبة الاستثمارات العامَّة، وعاش الشعب المصري بفقر يتزايد عبر العقود ويشهد عليه طوابير الخبز، وارتفاع الأسعار، ومعدّلات الهجرة المتزايدة، والمراكب التي تغرق بشباب يهربون من ذُلِّ المعيشة في الداخل إلى ذلها في الخارج!… والأخطر والأفدح حصاداً هو نشوء اجيال رخوة مُغيّبة لا تعرف عدوها من صديقها، لا تعرف كرامتها من انسحاقها.. وهي جريمة تعلو غيرها من الجرائم والتي قد اُرتكبت بشكل ممنهج متعمد بتفريغ المجتمع، والاعلام، والتعليم من كل مايُشير الى عدونا الأوحد، وتجريم وتشويه فكرة المقاومة المشروعه.
وعلى الجانب الآخر من المعاهدة، طور الكيان الصهيوني قدراته العسكرية حتى صار رابع دولة عالمياً بتصدير السلاح، وتفوق بمجال البحث العلمي، وتفوق كقوة صناعية واقتصادية كبرى! وهذا ما يدفعنا للقول بأن الإقتصاد والجغرافيا هما ما يشكلان المنحنيات السياسة، ورسم خرائطها.
ولكن، اذا تورطا، وتطرفا، في حساباتهما الإمبريالية والدموية، لويت ذراعهما، وكسرت مسار مخطاطهما “المقاومة المشروعة” والتحالفات المناوئة الذكية، التي تجبرها أن تعود لخانة السياسة والتفاوض والتسوية
ولهذا نجد الدول التى لا تخوض حرباً عسكرية حقيقية بالميدان ولكنها ترضخ لتبعية امريكية، واستدانة اقتصادية، ونظام تعليم متردي، ولا تجيد الدخول بتحالفات ذكية تمثل جسد مريض لا يموت، فلا يمكنك دفنه، للأخذ بثأره من عدو واضح امامك ولا يمكنك أيضاً احياءه، ليكون مُنتِج، فاعل، حاضر بقوة، بالمشهد وهذا حال مصر الآن.. مُقارنة بالمقاومة السياسيه، والاقتصادية، والعسكرية لدول اميركا اللاتينية التي وقفت بوجه التبعية، والدوران حول القطب الاميركي وها هم يقفزون مستقلين يرسمون مستقبلهم بقوة…
و دول النمور الاسيوية، لم تنشغل وتتورط بالاحداث العالمية وعكفت على تطوير منظوماتها الاقتصادية، والتكنولوجية وحجزت مكانها بنادي الدول القوية..
وايران، التي لم يكسرها حصاراً اقتصادياً، أو حرباً اعلامية شرسة، لتنهض، وتبني، وتصنع مستقبلها، وتتفاوض بدأب، ومثابرة، لتشتري هيبتها بين الأمم..
وسوريا، المُعتدى عليها كونياً، ها هي تلزم العالم بالرضوخ لخياراتها، ولصمودها، وللخانة السياسية التى جعلتها دوماً تغرد، خارج السرب العربي الخانع الخاضع، ها هي سوريا لم تُلقِ سلاح معركتها بعد، تُعاود مسارها التصنيعي، والتنموي تمهيداً لمواصلة سياستها المُستقلة، واقتصادها الصناعي الوطني .
إذن ..
التبعية وهم لا يبررها وهن اقتصادي، أو ضغط خارجي، او معاهدة ملعونة مع عدو اقليمي، يبررها فقط عجز سياسي، وافلاس ارادة وخيانة للمستقبل !
والسلام، ليس دبلوماسية، السلام الخانع تجارة رخيصة بمواقف احادية انتهازية، الرمادية السياسية، رخص سياسي، يعتنقه دون القادة، والزعماء، والملهمين.
فلن نكون قوة اقليمية جديدة، وفاعلة بمجرد امتلاكنا “الرافال والميسترال” وأن نتعذر بعدم إغضاب الأسود من حولنا، فمن يريد ان يشرب كأس الانتصار هو – فقط – من يستغل الظرف الدولي الطارئ بتعدد الأقطاب والتحالفات وأن يُشارك بمشهد، تغيير الثوابت الإستيراتيجية وأن يكسر ترس الدوران حول الغنائم المؤقته والسلام الزائف !
(*) كاتبة عربية مصرية .