(الصرخةُ) سلاحُ الشعوب في مواجَهة الهيمنة الأمريكية
مقالات | 24 يوليو | مأرب برس :
الكاتب:عبدالملك العجري :
في سياقِ الحرب الكونية التي قادتها الولاياتُ المتحدة عقبَ أحداث سبتمبر بحُجَّة مكافحة الإرْهَاب، واستغلالها لفرض العولمة، كمنظومة سياسية وثقافية واقتصادية تسعى لتعميمها وفرضها كنموذج وحيد يمثّل نهاية التأريخ, أطلق السيد حسين بدرالدين الحوثي حملةً توعية جماهيرية مكثّفة ومركَّزة مصحوبةً بهتافات وشعارات مناهضة لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة العربية واليمن (اللهُ أَكْبَر، الموتُ لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسْلَام)؛ لذا كان يُطلَقُ على مؤيديها وصف (جماعة الشعار) نسبة إلى تبنيهم (الشعار) أداةً ووسيلةً احتجاجيةً ممانعةً لاستغلال الحرب لفرض إرادتها على العالم والعالم العربي والإسْلَامي بالذات.
أثارت الصرخة جدلًا وسجالًا واسعًا، وفُسّرت باعتبارها إحدى دلائل الارتباط بإيران، وهو من نمط التفسيرات النمَطية الجاهزة للإسقاط السريع بشكل آلي على أساس التشابه الشكلي. مثل هذه التفسيرات لا تستطيعُ أن تُجيبَ على كثير من الأسئلة المرتبطة بالموضوع على سبيل المثال: لماذا في عام 2002م دون غيره من التواريخ اختار أنصارُ الله لأول مرة ترديدَ هذه الهتافات؟ إذَا كانت إيران هي من وجّهت الحوثي، فلماذا لم توجه قبل هذا التأريخ؟. لماذا لم تكن التسعينيات اوفي الثمانينيات مع انطلاقة الثورة الإيران وترديد الثوار هتافات الموت لأمريكا إذَا كان القضية هي مجرد محاكاة أَوْ تقليد لنموذج الثورة الإيرانية؟؟ (****).
إنَّ فهم خلفية ودوافع السيد حسين الحوثي الحقيقة لا يتم إلا من خلال مقاربتها في سياقها العام؛ باعتبار أن نوع التحَـرّك وشكله يتحدد بالسياق السياسي والثقافي والاقتصادي.
في عام 2002م تحدّث السيد حسين في محاضرة عن (خطر دخول أمريكا اليمن) بعد تفجير المدمرة (كول)، حينها كانت تقاريرُ كثيرة خرجت- بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من غزو للعراق، تتوقع أن اليمن في مرمى الاستهداف الأمريكي ودار حديث أنها الهدف الثاني التالي للعراق على قائمة الأَهْـدَاف الأمريكية.
عن هذا التوقع يقول السيد حسين: «الشيءُ المتوقعُ- واللهُ أعلمُ-، والذي قد لمسنا شواهدَ كثيرةً له، وبدأت المقابلة الصحفية التي سمعناها قبل يومين تقريباً مقابلة صحفية مع الرئيس، أسئلة حول السفينة [كول]، وحول من كانوا يذهبون إلى أفغانستان، يريدون أن يحملوه المسؤولية هو. السؤال الذي يوحي بأنهم يريدون أن يحمّلوه المسؤولية هو حول المجاهدين (كما كان يسمونهم المجاهدين العرب) الذين ساروا إلى أفغانستان من الشباب اليمنيين فبدأ يتنصل ويقول: هم كانوا يسافرون بطريقة غير شرعية، ولا نعرف عنهم شيئاً».
وفي هذا السياق دعا الحوثي الشعبَ اليمني لتحمُّل مسؤوليته، ورفض القبول بأي شكل من أشكال الوجود الأمريكي: «إذاً: نقول جميعاً كيمنيين لكل أولئك الذين يظنون أنه لا خطر مُحدق، الذين لا يفهمون الأشياء، لا يفهمون الخطر إلا بعد أن يَدْهمهم، نقول للجميع سواء أكانوا كباراً أم صغاراً: الآن ماذا ستعملون؟ الآن يجب أن تعملوا كُلّ شيء، العلماء أنفسهم يجب أن يتحَـرّكوا، والمواطنون كلهم يجب أن يتحَـرّكوا، وأن يرفعوا جميعاً صوتهم بالصرخة ضد أمريكا وضد إسرائيل، وأن يعلنوا عن سخطهم لتواجد الأمريكيين في اليمن، الدولة نفسها، الرئيس نفسه يجب أن يحذر، ما يجرى على عرفات، ما جرى على صدام، ما جرى على آخرين يحتمل أن يجري عليه هو، إن الخطر عليهم هو من أولئك، الخطر عليهم هو من الأمريكيين، الخطر عليهم هو من اليهود، على الحكومات وعلى الشعوب، على الزعماء».
ويضيف: «الشعار يمثّل حرباً نفسية مضادة للحرب النفسية التي يشنونها على الشعوب العربية لهزيمتهم وإرْهَابهم من خلال شن حرب عسكرية على العراق، وعندما تستمر الجماهير في ترديد الشعارات المناهضة لهم عندما يسجن ويضرب ولا يحدث تراجع، فإنها في حد ذاتها حرب نفسية كبيرة في مواجهتهم…، إبطال لحرب نفسية من عندهم».
الحوثي لا يطرح الشعارَ حلًّا سحريًا لحل مشاكل العرب والمسلمين مع الولايات المتحدة؛ إنما سلاحًا مرحليًا تقبضيه طبيعة هذه المعركة مع أمريكا، والإمْكَانات المتاحة يقول الحوثي: «عندما يقول البعض ما قيمة مثل هذا الشعار؟. نقول له: هذا الشعار لا بد منه في تحقيق النصر في هذه المعركة على الأقل، لا بد منه في تحقيق النصر في هذه المعركة، معركة أن يسبقنا الأمريكيون إلى أفكارنا وإلى أفكار أبناء هذا الشعب، وإلى أفكار أبناء المسلمين وبين أن نسبقهم نحن، أن نرسخ في أذهان المسلمين: أن أمريكا هي الإرْهَاب، أن أمريكا هي الشر، أن اليهود والنصارى هم الشر حتى لا يسبقونا إلى أن يفهم الناس هذه المصطلحات بالمعاني الأمريكية»
الموتُ هنا معناه الموتَ المدنيوالأَخْلَاقي لا الموت البيولوجي الذي يعني تعطُّل الوظائف العضوية للجسد، والرسالة التي أراد الحوثي إيصالها من خلال ذلك الشعار: هي الإدانة الأَخْلَاقية والسياسية والقانونية لمساعي فرض الوصاية الأمريكية، وتطويع الوعي العام اليمني والإسْلَامي عمومًا للدخول في الزمن الأمريكي أفواجاً أفراداً وجماعات، وتحصين لوعي المجتمع من الاختراق وتطويعه لصالح المُخَطّطات والمشاريع التوسعية لإدارة المحافظين الجدد، وخلق رأي عام محلي يقوّي ويعزز جوانب المنعة والقوة لدى الشعب اليمني أمام المخاطر التي تمثلها التدخلات الأمريكية، بخلق حركة وعي جماهيرية يعي مستوى المخاطر وطبيعته ومن ثم يتحَـرّك لاتخاذ الموقف المعبر عن الشعب اليمني الرافض لسياسة التبعية والهيمنة والتدخلات الخارجية الأمريكية.
يؤكد الحوثي ويجزم بأن الشعار عملٌ سيترُكُ أَكْبَرَ الأثر في نفوس الأَعْدَاء، وأنه “بمثابة ضَرْبِ الرصاص إلى صدورهم”، ويلخص أهم الأَهْـدَاف التي يمكن أن يحققها بأنه أقل موقف يمكن تقديمه للخلاص أمام الله ولاستنقاذ أنفسنا من حالة الذلة والسخط الإلهي.
ثانياً: يمثل الشعار نوعاً من الحرب الوقائية النفسية، فالترديد المستمر للشعارات المعادية لأمريكا وسياستها الخارجية في الأوساط الشعبية يخلق لديهم انطباعاً بأنه لا محلَّ لأمريكا من الإعراب في بلد هذا حاله، وأن السياسة الخارجية لأمريكا لا يمكن أن تكون محل ترحيب فيه, ما يجعلهم يفكرون ألف مرة قبل اتخاذ أيَّة حماقة ضد هذا البلد، وخلق هكذا انطباع في نفوس الأَعْدَاء أمر مطلوب ديناً كما قال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، فمجرد مرابط الخيول أمام بيوتكم تُظهِرُكم على حالة من الجهورية ترهب الأَعْدَاء “فعندما يأتي أحد المشركين فيرى عند بيت هذا خيلاً وبيت الآخر خيلاً سيرى أن هذه الأُمَّة معدة لنفسها…”.
ثالثاً: أنه يعكس وبشكل مستمر حالة الاستياء الجماهيري من الممارسات الأمريكية، فهو بمثابة تظاهرة أسبوعية تعرب فيها الجماهير في عموم القرى والمدن عن موقفها الرافض للسياسة الأمريكية، وانتشار ظاهرة (العداء لأمريكا) يثير حساسية وَقلق الأمريكيين، يستدل الحوثي على هذا بالانزعاج الأمريكي لنتائج استطلاع زغبي الدولي (2002م) في سبع دول عربية إضافةً لعرب إسرائيل -غير الإيْجَابية تجاه الولايات المتحدة والسبب -كما يقول- إنهم ليسوا أغبياء مثلنا، فهم يحرصون على تحقيق أفضل المكاسب بأقل الخسائر الممكنة وبخبث يحاولون تمريرَ مُخَطّطاتهم من دون أن تثيرَ فينا أيَّة ردة فعل وحتى لا يكون ذلك باعثاً لنا على التفكير في أي عمل جدي يفشل المشاريع الاستعمارية الصهيو-أمريكية.
رابعاً: ما يترافق مع الشعار من توعية مستمرة وتعبئة جماهيرية يعمَلُ على تحصين الجبهة الداخلية لأي بلد من أي اختراق أمريكي أَوْ الانخداع بالأَهْـدَاف التي برّرت بها أمريكا حملتها العالمية ضد الإرْهَاب، فنحن إذَا رجعنا بذاكرتنا إلى الفترة التي تبنَّى فيها الحوثي مشروعه هذا (فترة ما بعيد أحداث 11/ سبتمبر) حينها كان التوجه الأمريكي نحو مغازَلة شعوب العالم الإسْلَامي بدعاوى مثل تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان وإسقاط الأنظمة الديكتاتورية ومكافحة الإرْهَاب… إلخ، وقد رأينا كيف استهوت البعضَ الفكرةُ، وكيف دغدغت أمريكا بها مشاعرَ بعض الجماعات المضطهدة والمحرومة التي وقعت في فخها، وعلى أساسها احتلت العراق, وحينها تفاوتت الأنباء حول من يكون الهدف الثاني!، وتضاربت الآراء في من يحتل المرتبة الثالثة في سُلّم الاستهداف الأمريكي!.
إنَّ إحدى الاستراتيجيات الدفاعية السياسيّة والاجتماعية التي تلجأ إليها كثيرٌ من دول العالم هي التعبئةُ الجماهيريةُ ورفع الروح المعنوية وروح المقاومة لدى الجماهير ضد أيَّة دولة تشكِّلُ خطراً عليها، وهي السياسةُ التي انتهجتها إيرانُ وأغلب دول أمريكا الجنوبية كفنزويلا في مواجهة الأطماع الأمريكية.
وعلى كُلٍّ، فالحضورُ الجماهيريُّ الحيُّ والفاعلُ والنشطُ في المشهدِ السياسي أمرٌ لا يمكنُ تجاهُلُ أهميته فإذا كانت أمريكا -بما تملكه من إمْكَانيات مادية واقتصادية وعسكرية- تستطيع فرض إملاءاتها على الأنظمة العربية (المرتهنة أصلاً في وجودها وفي بقائها على أمريكا ورضا الكونجرس الأمريكي)، إلا أن هذه الإمْكَانات تبقى عاجزةً أمام إرادة الجمهور (الجيش الذي لا يقهر)، والتأريخ يعلمنا كيف تهاوت عروش المستكبرين والجبابرة تحت أقدام المستضعفين.
(***) وأود هنا أن ألفتَ الانتباهَ إلى حقيقة هامة نغفلها في تحليلنا للدور الإيراني في المنطقة بعيداً عن ذهنية المؤامرة، هي أن التأثيرَ الإيراني يرجعُ من بين ما يرجع إليه إلى ديناميات الجذب للثورة الإيرانية بخطابها السياسي والديني وشعاراتها المناهضة؛ لما تسميه أدبياتِ الثورة الاستكبار العالمي التي ألهمت حركات التحرر والمقاومة الوطنية والإسْلَامية في المنطقة.
الثورة الإيراني من أهم الثورات الشعبية في القرن العشرين، وككل الثورات الإنسانية الكبرى في العصر الحديث، لا تقف آثارها السياسية والفكرية والحضارية عند حدودها القطرية والقومية، وبحسب هيكل الكاتب والسياسي المصري المعروف “إن عظمة الثورة الإيرانية تكمُنُ في امتداداتها الإقليمية والعالمية، وكان ذلك نتيجةً لشمولها على عناصرَ طَغَت على عصرنا، ولا شك أن الإسْلَام الذي أعيد إحياؤه أهم هذه العناصر…”.
وَالإمامُ الخمينيُّ قبل كونه زعيماً سياسياً وروحياً للشعب الإيراني هو مجدد ديني وَمصلح اجتماعي ومفكر إسْلَامي أثرُه في حركة التجديد الإسْلَامية يتجاوز شخصياتٍ إصلاحية رائدة كالأفغاني ومحمد عبده والكواكبي.
ولذلك من غير المنطقي النظرُ إلى تبني بعض الجماعات لأفكار يعود أصلُها إلى فكر الخميني وأدبيات الثورة والتشابه في بعض الشعارات والسلوكيات، كدليل على تدخُّـل إيراني أَوْ تورُّط، ومن غير المنطقي أيضاً تحميل إيران مسؤولية المخاوف الزائدة لبعض الحكام العرب والخليج.