2000 صورة ولوحة فنية وعشرات الفقرات تعكس حياة شعبٍ يعاني
#فج عطان:
تحقيق مصور/ محمد محمد إبراهيم
* في معرضه الأول يصيب الحضور المحلي والأممي بصدمة ذهنية تجاه مأساة اليمنيين
* وضع اليمن الإنسـاني.. رواية البؤس والدمار
تململ بقامته الخمسينية النحيلة ليشيح بوجهه الشاحب باتجاه الجدار مدارياً روحه المكلومة قبل الآخرين، كي لا يُسْمِع نفسْه، ولفيفاً من الحضور يتجمهرون حوله، رعود غيم دمعه المنهمر على خده، وهو يطالع في صورة منزلاً يشبه منزله الذي دُمّر على رؤوس أبنائه الذين فقدهم جميعاً في ضربة جوية، لتحالف العدوان من أشقائنا في العروبة والإسلام بقيادة المملكة العربية السعودية..
حاولت مداراته والسير بجواره دون أن أقطع توحده الوجداني الأليم مع تلك اللوحات التي تعكس عالماً من شريعة الغاب: أشلاء أطفالٍ زهقت أرواحهم تحت الأنقاض، وجثث لنساء مقطوعة الأطراف والرؤوس، وأنصاف أجساد لمسنين وشباب ورجال، لم تزل غائرة تحت ركام الخراب، وقرى مدمرة تحوي نفوساً بريئة وأرواحاً طاهرة، وليست مفاعلاً نووياً أو معسكراً أو مركزاً لوحوش فتاكة.. تابعت جواره الخطى وهو يعض على شفتيه وإن ألمح جانباً من وجهه الشاحب مقشعراً وزاوية عينه اليمنى لا تكف عن الانقباض والانفتاح تحاول حجب سيل الدموع الذي لا يخفي طلائعه في زاوية عينه المغرورقة.. ليس أمامي سوى مقاطعته وخطاه تتباطأ أكثر فأكثر. معرض رائع وصور مؤلمة. هكذا قلت لألفت انتباهه، فرد عليّ: صحيح، إنها مأساة وكارثة، أن تتحول اليمن إلى هذا الوضع، لا ألحقهم الله خيراً. إنه أحد زوار معرض اليمن الإنساني الأول، يدعى أحمد حسين أحد نازحي محافظة صعدة الذين دمرت منازلهم وقراهم بالكامل.. لم يكن وحده هو من مرّ بهذه الحالة, بل كل من شاهد الصور بمختلف ألوانها ومواضيعها، ذرف الدمع وهو أمام معرض يختزل مأساة شعب يتجاوز الثلاثين مليون، يعيش على مسمع ومرأى من العالم تحت، وطأة فقر مرير ناتج عن بيئة جغرافية شحيحة الموارد، وفساد استشرى في وسط قوى سياسية زمناً طويلاً ليتحول إلى صراع داخلي قاسٍ وبربرية عدوان استمر لما يقرب نصف العام..
رواية بالدم والدمع
هذا هو جزء من الصور واللوحات الفنية والرسومات، التي أُثري بها المعرض الأول للوضع الإنساني في اليمن، غير الحديث عن فقراته الفنية والإبداعية والإنسانية والخدمية للنازحين، وليس الأهم -هنا- معرفة من المنظم، ومن يقف وراءه، بل الأهم هو محتواه، ورسائله التي تحمله إلى زواره من اليمنيين والعرب والعالم ممثلاً في الحضور الأممي لوفد الصليب الأحمر الدولي، كما أن الأهم هو أنه في ظروف كهذه يُعد تظاهرة استثنائية ستسجل في ذاكرة الفن الجريح والإبداع المتقد عن نيران المعاناة والصامد أمام آلة القتل الخارجي والحروب الداخلية المؤسفة، التي تشكل وصمة عار وخسران في ذاكرة الحكمة اليمانية..
إن هذا المعرض تظاهرة لم تصنعها نزعة السباق المادي – كما هو المعروف في عرف العمل المدني – أو التنافس الإبداعي بين الشباب ومنظمات المجتمع المدني، التي تتكاثر كالجراد بحثاً عن فتات المال، بقدر ما نضج إبداع مفردات ومكونات وفقرات هذا المعرض الواسع مساحةً وموضوعاً وقيماً، على جمر المعاناة الحقيقية التي يعشها الشعب اليمني، من مظاهر البؤس والحرمان والطفولة البريئة المسلوب حقها في العيش الرغيد، وفئات المعاقين، المحرومين من حقهم الاجتماعي في الإحساس بكونهم جزءاً من التفاتاتنا اليومية، والمرأة المكابرة تحت سلطة الواقع التعيس، لتقاتل الفقر والعوز والأمية خصوصاً في القرى أكثر من شقيقها الرجل، ومأساة الفتاة المحرومة من حق التعليم، وضياع شيخ تسعيني كشف عن رأسه الضبابي الناصع ليضع عمامته مخدةً تقي جلدة رأسه قسوة رصيف العرض النهائي لعمر أثقلته الكلوم..
هكذا بعدسة الكاميرا، وثراء الريشة الحساسة، ومخيال براعم شاهدة على قسوة الواقع المرير بشقيه الداخلي (بما يحمله من صراعات طال أمدها بين اليمنيين)، والخارجي بما يحمله من عدوان وقصف همجي بربري طال كل شيء وإنساني، وجميل خادم لحياة الإنسان اليمني.. إنه فن الواقع المعاش، الذي أخذ خلال الفترة (8 – 13 أغسطس الجاري) معرضاً باستدارة ألام اليمنيين، في أوسع قاعة لأهم مدرسة في الجمهورية اليمنية (مدرسة جمال عبد الناصر)، تحت مسمى (المعرض الأول للوضع الإنساني في اليمن).. فبكل تلك الدلالات دوَّن ثلة من براعم وأطفال اليمن كل ما تعيشه اليمن من وضع إنسان كارثي ومن تطلعات وأحلام وآمال قتلتها الصراعات والحروب وأجهزت على ما تبقى منها طائرات العدوان السعودي.. ليشكل الرسامون الصغار لوحة من زهور الربيع الجميل، حيث استمر أكثر من 20 طفلاً على مدى ستة أيام يرسمون لوحاتهم المصاحبة لفعاليات المعرض، إلى جوار معرض الصور واللوحات الفنية والكاريكتورية وفقرات وندوات علمية وفعاليات هذا المعرض الذي لم تقف مفرداته عند هذا الحدّ بل عكست مظاهر الألم الإنساني جراء النزوح الإجباري تحت وطأة هذا الواقع الكارثي.. حيث احتوى المعرض المعرض -الذي نظمته مؤسسة “فريدم هاوس اليمن” بالشراكة مع عدد من منظمات المجتمع المدني- على عيادة طبية للنازحين والزوار عمل فيها 10 أطباء وطبيبات متخصصين لتقديم خدمات طبية وفحص ومعاينة وإعطاء بعض العلاجات للمرضى المرتادين للمعرض .
تظاهرة نوعية
المعرض رغم الظروف القهرية اعتبره الحضور والزوار والقائمون عليه تظاهرة فريدة ونوعية, إذ لم يقم في اليمن معرضاً بهذه الرسالة والتنوع المعبرين عمّا يعيشه الشعب اليمني، وبما يوصل رسالة إلى العالم الخارجي الذي يتجاهل أو يجهل تماما ما يدور في اليمن من معاناة وخراب ودمار وحصار وانعدام للخدمات الأساسية المختلفة، حيث حضر افتتاحه رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر بيتر ماورير نيابة عن مدير العلاقات الدولية في الصليب الأحمر يُوان ونستن، وهو كفيل بنقل هذا الواقع وحجمه الكارثي إلى المجتمع الدولي والمنظمات الدولية والحقوقية والأمم المتحدة وكل هيئاتها..