المحاضرة الرمضانية الحادية عشرة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي “نص” 13 رمضان 1445هـ 

|| مأرب نت || 13 رمضان 1445هـ

نص المحاضرة الرمضانية الحادية عشرة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 13 رمضان 1445هـ

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في سياق الآيات المباركة من (سورة الأعراف)، التي بيّن الله لنا فيها جوانب معينة من قصة آدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وموقف الشيطان العدائي والمتعنت، وما تضمنت تلك الآيات المباركة، من الدروس والعبر المهمة التي نستفيدها من تلك القصة، كنا قد تلونا البعض من تلك الآيات وتحدثنا على ضوئها، وكان فيما سبق:

البيان لما ذكره الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عن نعمه العظيمة على الإنسان، على المجتمع البشري بشكلٍ عام، كيف مكَّن لهم في الأرض، وأنعم عليهم في خلقهم، وهو خَلَق الإنسان في أحسن تقويم، ومنحه صورةً رائعةً ومميزة، ثم كرَّمه، نعمة السجود تكريماً لآدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” هي نعمة على كل البشر أيضاً، وفيها التكريم الكبير للإنسان.

وبيَّن الله لنا كيف امتنع إبليس– لعنه الله- من السجود مع الملائكة، وعمَّا كان الدافع الذي دفعه إلى ذلك، وتبيَّن لنا أن الدافع هو عقدة الكبر والعياذ بالله، ثم عندما طرده الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” من بين الملائكة، {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: 13-17]، فتحدثنا عمَّا تفرَّع من عقدة الكبر من المعاصي الكبيرة والسيئة والخطيرة:

  • فإبليس– لعنه الله- امتنع من السجود لآدم، فكانت هذه معصية.
  • ثم أصر على ذلك، فكان إصراره معصيةً أيضاً.
  • ثم إنه بعد ذلك- وبكل وقاحة- يخاطب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” متهماً لله في عدله وحكمته، وهذا كان كفراً فظيعاً، ومعصيةً كبيرة.
  • ثم مع ذلك بعد أن طلب الإنظار، فكشف الله له أنه من المنظرين أصلاً، بيّن اتجاهه، الذي هو معصية، معصية كبيرة جداً، على أن يقود الضلال والكفر، وأن يتجه في كل ما بقي من زمن سيُعَمَّر فيه ويُنظر فيه للإغواء عن صراط الله المستقيم، لإضلال بني آدم وإغوائهم، وهذا ذنبٌ عظيمٌ جداً، ويريد أن يستمر على هذا الذنب كل تلك المدة التي سَيُنْظَر فيها.
  • قبل ذلك هو أساء إلى الله أيضاً بتحميله المسؤولية، حمَّل الله مسؤولية إغوائه، مع أنه الذي أوقع نفسه في الغواية بسبب عُقدة كبره.

وهكذا من ذنبٍ إلى آخر، ومن معصية إلى أخرى، ومعصية الإغواء عن طريق الحق كم فيها من المعاصي، في كل معصية يعصي الإنسان فيها بتشجيع وتحفيز وإغواء من الشيطان، يكون شريكاً في تلك المعصية والعياذ بالله.

فهناك درسٌ كبيرٌ جداً فيما يتعلق بهذا التحول الذي حصل في واقع الشيطان، في واقع إبليس نفسه، عندما خرج من تلك الحالة التي كان فيها متعبداً بين الملائكة، ولآلاف السنين، كما ورد في الآثار أنه بقي آلاف السنين متعبداً بين الملائكة، وكان قد ارتقى ليكون متعبداً بينهم، ومن جملتهم، يعبد الله معهم، فمن ذلك المستوى في العبادة والارتقاء الذي وصل إليه، ثم هذا التحول إلى: عاصٍ، متمرد، خبيث النفس، سيء، مُصرٍّ على المعصية، يتَّجه إلى أسوأ مستوى من العصيان، إلى أحط مستوى من الخبث والعياذ بالله! لماذا هذا التحول الخطير؟ هذا فيه درسٌ مهم.

نجد في تجربة الحياة، في واقع الناس وعلى مرِّ التاريخ، أن هناك من البشر أنفسهم من يتَّجه في طريق الحق، والإيمان، والعمل الصالح، ويستمر لزمنٍ طويل، والبعض في ظل ذلك قد يبرز له دورٌ مميز، فيظهر في ظاهر الحال إلى أنه على مستوى متقدِّم من الإيمان والعمل الصالح، ومستوى راقٍ يظهر فيه في إطار عملٍ من الأعمال الصالحة، كالجهاد في سبيل الله، أو أي عملٍ آخر من الأعمال الصالحة، فيأخذ وقتاً لا بأس به وهو في ذلك الاتجاه، ومع الزمن أيضاً يبرز في إطار دورٍ مميز، ثم يتغير واقعه في مرحلة معينة، أو عند ظروفٍ معينة، أو أحداثٍ معينة، فيتجه اتجاهاً منحرفاً تماماً، البعض إمَّا في إطار انحراف فكري وعقائدي، والبعض على المستوى العملي، البعض على المستوى العملي في جوانب معينة، والبعض على المستوى الأخلاقي، وهكذا، تختلف الأحوال باختلاف الكثير من الناس في اتجاهاتهم، وعوامل وأسباب انحرافهم، فما الذي يحدث؟ ما الذي يحدث؟ مع أن الإنسان إذا اتَّجه الاتجاه الإيماني الصادق مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بإخلاصٍ لله “جَلَّ شَأنُهُ”، واتَّجه اتجاهاً صحيحاً، يحاول ألَّا تبقى لديه أي بذور، من البذور الخطيرة التي تؤثِّر عليه فيما بعد، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو يثبت عباده المؤمنين، هو القائل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد: الآية17]، هذه آية مهمة جداً، تُبَيِّن لنا أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يزيد عباده الذين يهتدون هدايةً، بل ويؤتيهم التقوى، وهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” القائل: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}[الأنفال: من الآية29]، وكم في القرآن الكريم من الآيات التي تبيِّن أن الله يزيد عباده الذين يهتدون، ويؤمنون، ويصدقون مع الله، ويخلصون لله، ويتجهون اتجاهاً صحيحاً سليماً؛ يزيدهم من الهداية، يزيدهم إيماناً، يزيدهم توفيقاً، يثبتهم، يتوب عليهم، يخرجهم من الظلمات إلى النور، يُمدهم بألطافه الخفية… وهكذا.

هناك أمورٌ خطرة جداً تؤثِّر على الإنسان:

  • منها: عندما يكون غارقاً في نفسه، ومتمحوراً حول ذاته:

هذه الحالة حالة خطيرة جداً؛ لأنها في الأخير تحوّل نفس الإنسان لدى الإنسان إلى صنم، وتحوّل وجهته في العمل إلى النفس، وليس إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذه من المخاطر التي تورَّط فيها الشيطان، فهو مع طول عبادته التي هي لآلاف السنوات- كما في الآثار والأخبار- عَظُمَتْ عنده نفسه، واستغرق في نفسه، بعد دهر طويل وهو على تلك الحال من العبادة، ويرى نفسه أنه قد وصل إلى أن يكون في جملة ملائكة الله بينهم، مستقراً بينهم، يتعبَّد لله معهم، أصبحت تَعظُم عنده نفسه، تَكبُر عنده نفسه، يُسَبِّح بحمد نفسه، يستغرق في نفسه؛ فَعَظُمَتْ نفسه عنده أكثر وأكثر وأكثر؛ فأصيب بداء الكبر، وهو من أخطر الأدواء، داء الكبر داءٌ خطيرٌ جداً، ذنبٌ عظيمٌ، ومفسدةٌ رهيبة لأي مخلوق (للإنسان، أو للجن أنفسهم)، حالة خطيرة جداً.

  • أيضاً إذا كان هناك بذرة خللٍ أخرى:

الإنسان قد يكون عنده بذرة خلل، فلا يحاول أن يُطهِّر نفسه منها، يُبقي عليها في أعماق نفسه، مع الزمن تكبر وتكبر وتكبر، ثم يواجه اختباراً معيناً في لحظة حساسة، فيتجلى ما قد وصل إليه ذلك الخلل، الذي كبر مع الوقت، كبر مع الوقت؛ لأنه يمكن أن يكبر فتزداد حالة الخبث في النفس والميل والانحراف نحو ذلك الخلل المُعَيَّن، الذي ينجذب الإنسان إليه، ويتجه إليه.

البعض– مثلاً- ميوله في شهواته النفسية، فهو لا يقتنع بالحلال، إمَّا رغبته الجنسية، لم يقتنع فيها بالحلال، ولم تتزكَ نفسه؛ لِتَطْهُر، وتبتعد عن الحرام وتمقت الحرام، يكبر ذلك الخلل، يكبر، يكبر، يكبر، وعند لحظة اختبار حساسة يسقط الإنسان سقوطاً خطيراً ومدوياً.

أو الأطماع مثلاً، أطماع مادية، لم يتطهر منها، ولم يحاول أن يتَّجه الاتجاه الإيماني المتكامل، الذي تزكو به نفسه، فيكبر عنده ذلك الخلل. أو الطموح في المقام المعنوي، يريد أن يكون صاحب شهرة وسمعة كبيرة، ومكانة بين أوساط الناس، ويصبح هذا بالنسبة له هدفاً، ويكبر معه ذلك؛ فهو يرى- في الأخير- أن تلك الأعمال هي لتحقيق هذا الهدف، بدلاً من أن يكون اتجاهه إلى الله، والله هو يعز عباده المؤمنين، ويجعل لهم الودَّ في قلوب عباده، الإنسان إذا اتجه مع الله بإخلاص، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو من يتولى أن يجعل له العزة، وأن يجعل له المودة في قلوب عباده، من دون أن يكون ذلك هدفاً للإنسان من الناس أنفسهم، يتجه به إلى الناس أنفسهم، بل إن الإنسان المؤمن يمكنه أن يكون هدفه حتى مع الله أسمى من ذلك، أسمى من ذلك، هدفه رضا الله “جَلَّ شَأنُهُ”، وبقية الأمور يتركها لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والله هو الذي يفيض على عباده المؤمنين بالخير والتكريم والنعم، يمنحهم من عزته، من حكمته، من فضله، الشيء الكثير، ولكن الحالة الخطيرة على الإنسان هي هذه، هي: الخلل الذي كان في البداية بشكل بذرات، بذرة في داخل النفس، وبقيت هذه البذرة، ونمت وكبرت مع الإنسان، لم يتخلص منها.

وكما سبق أيضاً حالة الأنانية، الأنانية حالة خطيرة جداً، والاستغراق في النفس، والتمحور حول الذات، من أخطر الأمور التي أثَّرت وتؤثِّر على الكثير من الإنس، كما أثَّرت قبل الإنس في الجن، وفي إبليس نفسه.

هذا التحوّل الخطير هو عبرة، هو درسٌ مهم، ليحذر الإنسان، وليسعَ إلى أن يكون اتجاهه الإيماني اتجاهاً صحيحاً نحو الله، نحو الله، أن يتجاوز ذاته، لا يغرق في نفسه، ولا يتمحور حول ذاته، تكون وجهته إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويُخلِص لله “جَلَّ شَأنُهُ”، ويتطهر من أي بذرة خلل ينتبه لها في نفسه، بل ويسأل من الله ويطلب من الله أن يزكي نفسه حتى تجاه الجوانب التي قد يكون هو غافلاً عنها، وبذور الخلل التي قد يكون غير منتبهٍ لها، يستعين بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على ذلك.

كشف الله لنا خطة إبليس، عدونا الشيطان الرجيم، خطته هي تلك: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، هو شديد العداء، ويريد أن يُلحِق أكبر وأقصى ضرر وأشد ضرر بالإنسان، فما هو الضرر الذي يمكن أن يلحق بالإنسان؟ هو في صده وإغوائه عن صراط الله المستقيم، بذلك يشقى، يخسر أكبر الخسائر، يتورط، ويُحرم من رضوان الله، ومن الجنة في الآخرة، كانت عقدة الشيطان: ألَّا يبقى أبونا آدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” وَأُمُّنَا حواء “عَلَيْهِ السَّلَامُ” ألَّا يبقيا في تلك الجنة، التي ابتدأ مشوار حياتهما فيها، فما بالك بجنة القيامة، جنة الخلد، جنة الآخرة، الشيطان يريد أن يحرم الكل منها.

{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، صراط الله المستقيم هو نهجه، نهجه وهدايته لعباده، ما وجَّهنا إليه وما شرعه لنا في هذه الحياة، والشيطان يريد أن يصدنا عن نهج الله، لا نتَّبع هدى الله، ولا نسير في مسيرة حياتنا على أساس منهج الله وتعليماته القيِّمة، فمنهج الله هو صراط مستقيم، يوصل إلى الغايات العظيمة، إلى الفوز العظيم، إلى الفلاح والخير في الدنيا والآخرة.

{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ}، يعني: في إطار صدِّهم وإغوائهم عن الصراط المستقيم، {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}، بمعنى: أنه سيحاول في الإنسان لإغوائه بكل وسيلة، بأي طريقةٍ مؤثرةٍ عليه، يحاول أن يَنْفُذ إليه من أي ثغرة، وأن يستغل أي نقطة ضعف لدى الإنسان، فإذا حاول في الإنسان- مثلاً- من جهة الأطماع، فوجده ليس طماعاً، يحاول فيه من خلال الشهوات الأخرى:

قد يؤثِّر على البعض– مثلاً- من جهة الرغبة الجنسية، أو الأطماع المادية، أو أيٍّ من الشهوات الأخرى، وقد يؤثِّر في البعض من جهة أخرى، لا ينجح من تلك الجهات، فيحاول أن يبحث من جهة أخرى.

قد يؤثِّر في البعض عن طريق الغضب، والغضب كما قال عنه أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”: ((جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنُودِ إِبلِيس))، يعني: ثغرة خطيرة جداً للشيطان، ومما روى عن نبي الله عيسى بن مريم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” أنه قال: ((أقرب ما يكون الإنسان من غضب الله إذا غضب))، لحظة الغضب والانفعال تؤثِّر على الكثير من الناس، وهي ثغرة خطيرة على البعض من الناس؛ لأنه إذا غضب وانفعل؛ تهور، ولم يعد منضبطاً ولا متماسكاً، يمكن أن يقول أي شيء، يمكن أن يفعل أي شيء. وفعلاً في واقع الناس كم من الجرائم الكبيرة، من جرائم قتل، وإزهاقٍ للأرواح، وإساءات، وكم من ذنوب باللسان، إساءات كبيرة باللسان، افتراءات، بهتان، ظلم بأشكال كثيرة، أتت في حالة الغضب والانفعال.

البعض من الناس يأتيه من جوانب أخرى، قد يكون غير انفعالي، أو قد يكون إذا انفعل تماسك وخرج عن تلك الحالة، فيحاول الشيطان كما قلنا: الطموحات المعنوية، المناصب، حب السلطة، النفوذ، فتنة الأمر والنهي، وغير ذلك، فهو يبحث عند كل إنسان أين هي الثغرة، أين هي نقطة الضعف، من أين يمكن أن يؤثِّر عليه؛ فيصرفه ويدفعه ليخالف أمراً من أوامر الله، أو نهياً مما نهى الله؛ لأن هدى الله في الأخير يصل إلينا (إمَّا أمر، وإمَّا نهي)، فيحاول أن يجعلك تخالف، تخالف أمراً من أوامر الله، أو تخالف في نهيٍ من نواه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وحين ذلك يوقعك في المعصية.

حتى الجوانب الدينية، قد يدفع بالبعض إلى أن يتدين بالضلالة:

  • إلى أن يفتري على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” باسم الدين.
  • إلى أن يقول على الله بغير علم.
  • إلى أن يغلو في الدين، ويتجاوز الحق والحد.
  • إلى أن يبتدع في الدين، ويحسب على الدين ما ليس منه.
  • إلى أن يتجه في تدينه إلى أن يُحَرِّم ما أحل الله، أو يُحلَّ ما حَرَّم الله… أو غير ذلك.

يعني: في الجانب الديني هناك أيضاً مزالق يمكن أن يشتغل عليها الشيطان مع من لديهم رغبة في التَّديُّن، توجه ديني، وهو يائس من صرفهم عن التوجه الديني؛ لأن البعض من الناس لديهم توجه ديني في نفوسهم، فييأس من أن يخرجهم من توجههم الديني، فهو يحاول أن يغويهم ولو كان في إطار توجههم الديني- كما قلنا- في جوانب كثيرة يمكن أن يغويهم فيها.

أمَّا من ينجح في صرفهم عن مسألة الالتزام الإيماني والديني كلياً، ويتَّجه بهم إلى الفجور والفسق، والخروج عن الالتزام بالإيمان والتقوى، فهي حالة أيضاً يغوي فيها الكثير من الناس، ممن يُعَبِّدون أنفسهم له وللشهوات، وينزلقون تلك المزالق والعياذ بالله.

فإذاً ينبغي أن يكون لدى الإنسان وعي بإن الشيطان سيترصد له، وإذا فشل في جهة معيَّنة، أو من جانب معيَّن، سيبحث من جانب آخر، فمن المهم للإنسان أن يحرص هو على أن يكتشف هو ابتداءً نقاط ضعفه: أين هي نقطة ضعفي، التي أرى نفسي أثناءها قريباً من الزلل، هل هي الغضب والانفعال؟ هل هي الشهوات؟ هل هي الطموحات المتعلقة بالسمعة والشهرة، أو غير ذلك، حب النفوذ…؟ أن يبحث الإنسان هو ليكتشف نفسه، ليكتشف نقاط الضعف لدى نفسه، جوانب الخلل لدى نفسه، ويمكنه من خلال اكتشافه لذلك أن يلتجئ إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن يسعى لتزكية نفسه، وللحذر، الحذر إذا عرضت له تلك الحالات، وهناك في دين الله، في تعليمات الله، في توجيهات الله، ما يساعد الإنسان، إضافة إلى الاستعاذة بالله، الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والاتِّجاه الإيماني، وذلك يشكِّل وقايةً للإنسان.

{وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: من الآية17]، حقد الشيطان على الإنسان، وعلى بني آدم بكلهم، حقد شديد جداً، ولا يرضيه، ولا يكفيه، ولا يقنعه، أن يغوي مليار إنسان، ويكون مصيرهم إلى جهنم، ويحترقون معه في نار جهنم، لا يكفيه ذلك، أساساً هو لو كان من الممكن له أن يغويهم بكلهم، فمستوى حقده، وعداوته، وعقدته، هي إلى درجة أنه يرغب بذلك، ولو أمكنه ذلك؛ لفعل ذلك، يريد هلاكهم بكلهم، يكرههم بأجمعهم، يحقد عليهم جميعاً، حقد يفوق تصورنا، حقد عجيب جداً، ولكن طموحه أنه إذا لم يمكنه أن يهلكهم بكلهم، وأن يغويهم بكلهم، فعلى الأقل الأكثرية منهم، أن يسعى لهلاك أكثرهم، ولإغواء أكثرهم.

وطموحه يعود إلى ما قد عرفه عن الإنسان، فيما عرفه مع الملائكة عن البشر؛ لأن هنا تساؤل: هل لو لم يكن الشيطان موجوداً، أو لم يغوَ إبليس، ويتَّجه لهذا الدور: لإغواء بقية البشر، ويستعين في ذلك بمن سيغوي معه من الجن أيضاً، من شياطين الجن، هل البشر في أنفسهم سيكونون مستقيمين، صالحين، وكان السبب الوحيد في غوايتهم هو الشيطان؟ الجواب: كلا، النفس البشرية من أصلها قابلةٌ للخير وللشر، والله يقول عن النفس البشرية: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس: الآية8]، والبشر بأنفسهم حتى لو لم يكن هناك إبليس، لو لم يغوَ إبليس، ولم يتحرك لإغوائهم؛ لكان منهم من يتَّجه في طريق الشر، ويصل إلى مرتبة شيطان من شياطين الإنس؛ لأن هناك شياطين أيضاً من الإنسان.

الإنسان متى وصل إلى مستوى أن يفقد عنصر الخير في نفسه، ويتحوَّل إلى مصدر إغواء وإفساد للآخرين، فهو وصل إلى مرتبة شيطان، شيطان، ابتعد عن الخير، ابتعد عن الحق، ووصل إلى درجة أن تحوَّل هو- بنفسه- إلى مصدر لإغواء الآخرين، يسعى لإغوائهم، ولإفسادهم، ولإضلالهم، عندما يصل إلى هذا المستوى، إلى ذلك المستوى، يعتبر شيطاناً من شياطين الإنس، الشياطين قسمان: من شياطين الإنس، ومن شياطين الجن.

ولكن الشيطان، الميزة هنا التي يمكن أن تكون نقطة إيجابية، لو وعاها الإنسان جيداً: أنَّ طريق الشر، عندما يصبح الذي عليها، يدعو إليها، ويقود من يتحرك فيها، هو عدوٌ سيءٌ جداً، وكائنٌ خبيثٌ، سيءٌ، رجسٌ، دنيءٌ، وصل إلى مستوى هابط جداً من الدناءة والخسة، فما هو عليه من الخسة والسوء، وما هو عليه فيما يحمله من العداء للإنسان، يمكن أن يكون حافزاً للإنسان لأن يستقيم في طريق الحق والخير، ما دام وعلى طريق الشر وطريق الغواية عدوٌ لك، يعاديك، يكرهك، يسعى لهلاكك، يبغضك، يسعى لأن يصل بك إلى الشقاء في الدنيا، والهلاك الدائم والأبدي في الآخرة، وأيضاً هو دنيء، وخسيس، وسيء جداً؛ فهذا يفترض أن يكون حافزاً للإنسان للانصراف عن طريق الشر، والثبات على طريق الخير، أن يكون حافزاً يساعد الإنسان على الاستقامة، وهو كذلك إن وعى الإنسان جيداً.

بعد أن كشف الله خطته للناس باعترافه، باعترافه؛ أمَّا الله فهو عليمٌ بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأعراف: الآية18]، قال له سابقاً: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}[الأعراف: من الآية13]، بعد هذا الحوار، وكشف الله فيه للناس باعتراف إبليس كل هذا الذي قد كشفه، أخرجه وطرده بهذا الطرد: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا}، من السماء، من الساحة التي يتعبَّد فيها مع الملائكة، {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا}، {مَذْءُومًا}، يعني: مذموماً، معيباً، وفعلاً الحالة رهيبة التي وصل إليها الشيطان، نعوذ بالله! تحوَّل من مقام العبادة، والقدسيَّة، وشرف الطاعة؛ إلى خزي، وذل، وعيب، وعار، وشناعة المعصية المخزية، هبوط رهيب جداً، وتحوُّل رهيب جداً، فهو مذموم، لم يبقَ له أي مكانة، لم يبقَ شخصيةً محترمة، أصبح مذموماً معيباً، تلطخ بعار وفضيحة وخزي المعصية المسيئة، {مَدْحُورًا}: مطروداً بإذلالٍ وإهانة.

{لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}، فكثرتهم هي كثرة لجهنم، وليست نقصاً على الله، الله غنيٌ عن العباد، الجن والإنس بكلهم ليسوا إلَّا نقطةً صغيرةً جداً، وعدداً ضئيلاً يسيراً محدوداً في ملكوت الله الواسع، الملائكة وحدهم خلق بأعداد هائلة جداً، وكثيرة للغاية، أعداد الإنسان حتى بعد أن وصلوا إلى مليارات، ومعهم أعداد الجن، ليسوا إلَّا عدد يسير، ضئيل، بسيط، قليل جداً، والأرض هذه التي استخلفنا الله عليها، ليست إلَّا كحبة رمل في صحراء لا حدود لها، صحراء شاسعة، فنحن في إطار ملكوت الله الواسع، لسنا سوى نقطة صغيرة جداً، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لو عصاه الخلق أجمعون؛ لما ضرته معصيتهم، فهو لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه، هو الغني الحميد، هو الغني الحميد، الله غنيٌ عن عباده؛ ولذلك مهما كانت الكثرة من الذين يكفرون نعمة الله، ويسيئون استغلال نعمه عليهم، فيما منحهم في أنفسهم من حواسهم، ومن جوارحهم، وفيما أوجد لهم من نعم في هذه الأرض، كلما أساء الإنسان استخدام هذه النعم التي وهبه الله إيَّاها في نفسه، في مداركه، في حواسه، في مواهبه، في طاقاته، في قدراته، وما مكَّن له في الأرض، وما منَّ عليه من المنافع في هذه الدنيا، إذا استخدمها في معصية الله؛ فهو يستخدمها فيما يضره، في مضار ومفاسد، وفيما يسبب له أيضاً الخزي، والهلاك، والعذاب الأبدي في الآخرة والعياذ بالله.

هذا الطرد الرهيب، يبيَّن لنا كيف كان سخط الله عظيماً على الشيطان، والله لعنه، ويأتي في الآيات الأخرى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[ص: الآية78]، وحالة المعصية حالة خطيرة على الإنسان، وعلى الجن أيضاً، وحالة الإصرار حالة خطيرة، وحالة العناد التي يستهوي البعض، العناد يستهوي البعض، يرتاح بالعناد، العناد خطر جداً على الإنسان، يشكِّل خطورة بالغة على الإنسان، كما رأينا كيف كان على الجن قبل الإنسان، وعلى الشيطان نفسه.

{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأعراف: من الآية18]، نعوذ بالله! من أتباع إبليس تمتلئ جهنم، تمتلئ من أتباع إبليس، من الجن والإنس، وهذا يفيد كثرتهم؛ ولذلك تصل إلى هذه الدرجة: {لَأَمْلَأَنَّ}، والعياذ بالله! وهذا أمرٌ مخيف، أمرٌ مخيف، ليسعَ الإنسان ألَّا يكون من ضمن تلك الأكثرية والعياذ بالله.

{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأعراف: الآية19]، لاحظوا مع طرد الشيطان بتلك الصورة المهينة، المذلة، المخزية، أتى التكريم والرعاية لآدم وحواء “عَلَيْهِمَا السَّلَام”، وأسكنهما الله تلك الجنة، جنة فيها مما يحتاجان إليه من طعام وشراب وملابس، وسائر متطلباتهما بوفرة، وبراحة، ويحصلان عليها من دون عناء، {فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا}، المأكولات والثمار متوفرة، {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}، شجرة واحدة فقط، وبدأ ترويضهما على المسؤولية، وعلى الأمر والنهي بشكلٍ محدود، يعني: لم يدخلا ضمن التزامات واسعة، مثلاً: يمنعا من أشجار كثيرة، ومن أشياء كثيرة، وقائمة نواهي، وقائمة أوامر، بدأت المسألة متدرجة معهما، ليبدأ مشوار الحياة دون أن يكون هناك ضغط التزامات كثيرة عليهما؛ إنما شجرة واحدة نُهيا عن الأكل منها، وحُذِّرَا بأنَّ النتيجة ستكون هذه: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}.

الشيطان بعد طرده وهبوطه من جهة السماء، ومن بين أوساط الملائكة، اتَّجه ليبدأ مشواره العدائي، وليبدأ جولته الأولى في الاستهداف لآدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، ولحواء “عَلَيْهَا السَّلَامُ”، فاتَّجه إليهما، وأعدَّ خطته لكيفية الاستهداف لهما، والهدف الرئيسي هو: إخراجهما من تلك الجنة، ومن ذلك النعيم، ومن تلك الحياة الطيِّبة والسعيدة، التي تتوفر لهما فيها متطلبات الحياة براحة، هو يريد أن يخرجهما من ذلك، وأن يتَّجه بهما إلى المعاناة، هو يائس من إضلال آدم، أو إفساد آدم، لكنه يريد أن يُلحِق بآدم المعاناة، كيف يعاني، كيف يبدأ مشوار حياته بمعاناة، فاتَّجه لإعداد خطته، وركَّز على ماذا؟ على تلك الشجرة، هو يريد أن يخالفا ذلك النهي، فالشيطان يستهدفنا تجاه الأوامر والنواهي الإلهية، فيما أمرنا الله أو نهانا، يشتغل على هذه النقطة.

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا}[الأعراف: من الآية20]، الهدف: أن يُلحِق بهما المعاناة والإفلاس، وأن يخسرا تلك الجنة وما فيها من متطلبات الحياة، إلى درجة ألَّا تبقى لهما حتى ملابسهما، وأن يرى كلٌّ منهما نفسه في موضع الضعف، والإفلاس، وانكسار النفس والإرادة، فيكون لهذا أثر على المستوى النفسي والمعنوي والمادي، والشيطان يريد أن يستهدف الإنسان في وضعه المعنوي، وإلحاقاً بذلك: في ظروف حياته أيضاً.

{لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف: من الآية20]، قام بالسعي لتصوير النهي الإلهي أنه ليس لمصلحتهما، وهذا مما يشتغل عليه الشيطان مع بني آدم: يحاول أن يصوِّر الأمر الإلهي، أو النهي الإلهي، أنه ليس في مصلحة الإنسان، وأنَّ مصلحة الإنسان في مخالفته، وهذا خداع، خداع بلا شك؛ لأن الله فيما يأمرنا، أو فيما ينهانا، يريد لنا الخير، ومن منطلق رحمته بنا “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

فهو يقول: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}، يقول: أنَّ سبب النهي لكي لا تكونا ملكين، ترتقيا لتكونا في هذه المرتبة: ملكين، أو من الخالدين، لتبقيا في الحياة بلا موت، تعيشا للأبد، وأنَّ سرَّ الشجرة هو هذا السر، فلو أكلتما من تلك الشجرة، فستتحولا إلى ملكين، وتبقيا في الحياة بلا نهاية، بلا موت، بلا فناء، هو هنا يحاول أن يلامس رغبة، رغبة لديهما، رغبة الترقِّي، الطموح ليكون الإنسان في مستوى أفضل وأعلى مما هو فيه، ورغبة الخلود في الحياة، هو حاول أن يلامس رغبة معينة، ومع أنَّ تلك الشجرة ليس لها أي سر من هذه الأسرار، ليس لها أي سر على الإطلاق، شجرة عادية، إن أكلا منها تكون النتيجة نتيجةً لتلك المخالفة أن يخسرا كل ما هما فيه، لا يبقى لهما حتى الملابس، ولاحظوا الفارق الكبير جداً: بين الوهم الشيطاني، الذي يقدِّمه الشيطان في وسوسته للإنسان، والحقيقة، تباين تام، وتناقض تام، واختلاف تام؛ لهذا يحاول أن يشتغل على هذه النقطة التي لامست رغبة، ومن الواضح أنه استمر، يعني: حاول محاولات متكررة، وأنه لم ينجح منذ المرة الأولى، وسوس لهما في البداية، فلم ينجح، فحاول، وهذا يبين لنا التكتيك الشيطاني، أنَّ تكتيك إبليس، وتكتيك الشياطين، هو: المحاولات المتكررة، والسعي للتأثير على النفس البشرية مرات، ومرات، ومرات، ومحاولات متكررة.

{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف: الآية21]، في الأخير حلف لهما، حلف لهما ليطمئنا؛ لأنه واضحٌ أنهما ترددا، وقلقا، ولم يطمئنا إلى وسوسته تلك، وإلى ذلك الوهم الذي رسمه لهما، فهو حاول أن يقنعهما بذلك عبر اليمين لهما، فهو قدَّم عنواناً مخادعاً، وقدَّم أيضاً أسلوب النصح، وقدَّم نفسه كناصح، والله يكشف لنا أيضاً كيف يفعل الشيطان، وأولياء الشيطان، وأهل الضلال، يقدِّمون عناوين مخادعة، عناوين جذَّابة، وعناوين مقبولة، وفي نفس الوقت يقدِّمون أنفسهم كناصحين، ويريدون ما فيه مصلحة الآخرين، وهكذا.

{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ}[الأعراف: من الآية22]، في الأخير أوقعهما في الخطر: خطر المخالفة، والنتائج المترتبة على ذلك، بعد سعيه المتكرر، واستخدامه أسلوب الحلف واليمين، وغرهما بذلك التزيين، والخداع، والوهم الذي رسمه لهما، عن سر تلك الشجرة، السر الزائف غير الواقعي.

{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ}[الأعراف: من الآية22]، مع ذلك الجو الذي أثَّر عليهما فيه حتى نسيا التحذير الإلهي لهما من الشجرة، ومن الشيطان وخداعه، وغفلا عن ذلك، {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}[الأعراف: من الآية22]، منذ اللحظة التي ذاقا فيها الشجرة، وقعا في النتيجة المؤسفة، خسرا كل شيء، وجُرِّدت عنهما حتى الملابس التي من الجنة، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}، أخذا من أوراق الجنة ما ينظمانه ويلصقانه ويشبكانه مع بعضه البعض؛ لستر العورات، يعني: إفلاس من كل شيء، على الفور، على الفور أفلسا من كل شيء، خسرا دفعةً واحدة تلك الجنة وما فيها، حتى الملابس التي عليهما، وهي النتيجة المُرَّة التي أوصلهما إليها، وأراد أن يوصلهما إليها، وشعرا بالخسارة، وشعرا بأنه ورطهما، وخدعهما، وكانت لحظةً صعبةً عليهما.

وفي تلك الحالة، وهما- بالتأكيد- في حالة خجل من الله، شعور بالخطيئة، بالتقصير، وحينها تذكران نهي الله لهما، وغير ذلك، أتاهم النداء من الله، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}، وفعلاً ليس هناك أي تقصير من جانب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو حذَّرهما، ونهاهما من الأكل من تلك الشجرة، ومن أن يقربا تلك الشجرة، حتى الاقتراب يشكِّل أحياناً تأثيراً على الإنسان، الاقتراب من المعصية، وكذلك حذَّرهما من الشيطان أنه عدوٌ مبين، يعني: لن ينصحهما، لن يقدِّم لهما أي شيءٍ فيه نصح، حتى وإن زعم أنه ناصح، وإن أقسم لهما أنه ناصح، وهذا حاله مع البشر، وحال أعوانه من شياطين الإنس والجن، مهما كانت العناوين مخادعة، وجذَّابة، ومهما كانت صورة ما يقدِّمونه أنه في إطار النصح، مثلما يعملونه مع الشعوب البشرية، والعالم الإسلامي في هذا العصر.

{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: الآية23]، اعترفا وأنابا إلى الله، ولم يكن موقفهما كموقف الشيطان: العناد، والإصرار، والاتهام لله، أو الإساءة إلى الله؛ بل بأدب، وخضوع، وندم، واعتراف بالخطيئة، أنابا إلى الله، طلبا منه المغفرة، بهذا التعبير: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}، وفعلاً الإنسان بالمخالفة- إن خالف أمراً من أوامر الله، أو نهياً من نواهي الله- يظلم نفسه.

نكتفي بهذا المقدار…

وَنَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى