المحاضرة الرمضانية التاسعة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443 هـ
|| مأرب نت || 19 رمضان 1443_ه
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
في سياق الحديث عن غزوة بدرٍ الكبرى، ثم بالتالي الحديث عن جهاد رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، ونهوضه بأمر الله “سبحانه وتعالى”، وعن المساحة التي أخذها الجهاد في القرآن الكريم فيما تحدث الله به عنه، وفي حركة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، تحدثنا عن الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى” كضرورةٍ لها علاقةٌ بنظم حياتنا، وبشؤون حياتنا، فليست- كما قلنا- عبءً إضافياً يُنتِج لنا المشاكل التي كنا في غناً عنها، بل هي وسيلةٌ جعلها الله “سبحانه وتعالى” لنا لنتصدى من خلالها للمشاكل القائمة في واقع الحياة، والمخاطر والتهديدات التي نواجهها نحن في ظروف حياتنا، وفي واقع حياتنا.
إضافةً إلى ذلك: فالجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى” هو من الفرائض الأساسية في الإسلام، وليس مجرد عملٍ قُدِّم ضمن الأعمال التي تأتي في سياق ما يوصَّف بأنه من المندوبات، أو المستحبات، أو الأعمال التطوعية، التي إن رغب الإنسان فيها، فلا بأس، وإن لم يرغب، فليس هناك مشكلة، ليست من ضمن الالتزامات الأساسية الإيمانية، الجهاد في سبيل الله ليس حاله حال المندوبات والمستحبات، والأمور التي تعود إلى رغبة الإنسان، إن رغب أن يفعلها، فزيادةٌ في الأجر والفضل، وإن لم يرغب، فلا حرج عليه.
الجهاد في سبيل الله هو فريضةٌ من أهم فرائض الدين، ومن ضمن الالتزامات الإيمانية الأساسية، التي على الإنسان المؤمن، إلَّا من عذرهم الله “سبحانه وتعالى” في الآيات القرآنية، ونصَّ عليهم، ونصَّ على عذرهم، وإلَّا فعلى غيرهم أن يتحركوا، أن يستجيبوا لله “سبحانه وتعالى”.
والقرآن الكريم أكَّد على هذا كثيراً؛ لأن الحديث عن الجهاد هو أكثر من الحديث عن أي فريضةٍ أخرى من فرائض الله في القرآن الكريم، فالله تحدث عن الجهاد بأكثر مما تحدث عن الصلاة، وعن الصيام، وعن الحج، وعن الزكاة… وعن مجموع تلك الفرائض، الحديث عنه واسعٌ جداً في القرآن الكريم.
يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النساء: من الآية76]، فجعله من صفاتهم اللازمة، من شأنهم أن يكونوا هكذا؛ لأن هذا جزءٌ من التزاماتهم ومسؤولياتهم الإيمانية، ذات العلاقة بإيمانهم، {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}[النساء: الآية76].
يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: الآية111]، فيأتي الحديث عمَّن؟ عن المؤمنين، باعتبارهم باعوا أنفسهم وأموالهم من الله “سبحانه وتعالى”.
مستوى العلاقة الإيمانية بالله “جلَّ شأنه” تصل إلى هذا المستوى: الذي ينطلق فيه الإنسان بائعاً نفسه من الله، والله هو المالك للنفس؛ إنما جعل الله هذا الباب، وفتحه لخاصة أوليائه، كما قال أمير المؤمنين عليٌّ “عليه السلام” عن الجهاد: ((بابٌ من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه))، فالله هو المالك للنفس البشرية، الله هو المالك لكل نفس، لكل ما في السماوات والأرض، المالك لنفس البَّر، ونفس الفاجر، والمؤمن والكافر، لأنفس البشر جميعاً، لكل المخلوقات بكلها، هو الملك، مع ذلك أتاح لعباده المؤمنين أن يبيعوا أنفسهم منه ضمن صفقةٍ، هي صفقة الجهاد في سبيل الله، كما قال في آيةٍ أخرى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}[البقرة: من الآية207]، فتستثمر تضحيتك في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، لتكون بالنسبة لك صفقةً بينك وبين الله، تحصل من خلالها على الأجر العظيم، على الفضل الكبير، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة: من الآية111]، فيكافئك على ذلك بهذا العطاء العظيم، العطاء الواسع، الحياة الهنيئة، السعادة الأبدية.
وواقع الكثير من البشر أنهم يبيعون أنفسهم، ومواقفهم، فيقاتلون، ويَقتُلون ويُقتَلون، مقابل رغبات مادية، وأهواء ومطامع، ومقابل إغراءات حصلوا عليها من هنا أو هناك، من جهاتٍ أخرى، هي تقف ضد الحق، جهات عندما يقاتل الإنسان في سبيلها، حتى لو كان في مقابل كل الدنيا، فهو خاسر؛ لأنه أسخط الله، وخدم الباطل، ووقف في صف الظالمين، والطغاة المجرمين، المعتدين، واكتسب الوزر الثقيل في الظلم معهم، في مشاركتهم في ظلمهم، وطغيانهم، وعدوانهم، وإجرامهم، والتمكين لباطلهم؛ فيتحمل الأوزار الثقيلة، التي تكون سبباً لهلاكه وخسرانه الدائم والعياذ بالله.
أمَّا مع الله “سبحانه وتعالى”، فأنت تقدم ما هو لله أصلاً، في مقابل أن تحصل على ذلك الأجر العظيم الذي وعد الله به، وتؤمِّن مستقبلك السعيد للأبد، {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}[التوبة: من الآية111]، هذا هو من شأن المؤمنين، هكذا هي علاقتهم بالله، هذا مستوى علاقتهم بالله “سبحانه وتعالى”.
يقول الله “جلَّ شأنه” في رده على الأعراب: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}[الحجرات: من الآية14]، وكانوا يريدون إيماناً بدون جهاد، فقال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: الآية15]، فهذا السياق، وبنفس هذه الصيغة أيضاً: (إِنَّمَا) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، تبين أنَّ مصداقية الإنسان في انتمائه الإيماني، وادِّعائه للإيمان، تتوقف على كمال إيمانه، من ضمن ذلك بقيامه بهذه الفريضة العظيمة، واهتمامه بها، كجزءٍ من التزاماته الإيمانية والدينية، فتكون المسألة أنَّ الإنسان الذي قد يعتبر نفسه مؤمناً كامل الإيمان، ومن المؤمنين، وأنه قد حاز ما وعد الله به المؤمنين، وحاز الصفات التي وصف الله بها المؤمنين، وهو ممن لا يريد الجهاد في سيبل الله “سبحانه وتعالى”، ويتخلف عن الجهاد في سبيل الله بغير أي عذر، وهو كارهٌ للجهاد في سبيل الله، متنصلٌ عن هذه المسألة، يعتبرها خارج اهتماماته نهائياً، وليس له بها أي علاقة، لا من قريبٍ ولا من بعيد، منصرفٌ عن ذلك بشكلٍ تام، ومضربٌ عن ذلك بشكلٍ تام، فليس بمؤمنٍ أبداً، فليس بمؤمنٍ أبداً، ورد في الحديث عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”: ((من مات ولم يغزُ، ولم يُحَدِّث نفسه بالغزو، مات على شعبةٍ من النفاق)).
الإنسان لا يمكن أن يتحقق له الإيمان الصادق، إلِّا ويشعر بأهمية الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، ويعتبرها كفريضةٍ من التزاماته الإيمانية والدينية، ويسعى في ذلك بحسب المستطاع، فإذا كان الإنسان في ظروف قد تهيأت لإحياء هذه الفريضة، في وسط شعبٍ مجاهد، أو في وسط أمةٍ مجاهدة، فالمسؤولية أكبر، والوزر في التخلف والتنصُّل عن المسؤولية، والتهرب، الوزر كبير، والذنب عظيم، تكون جريمةً كبيرةً جداً، عندما يتنصل الإنسان عن هذه المسؤولية، بعد أن هيأ الله له الظروف للقيام بها، من أعظم النعم، من أكبر النعم فيما يتعلق بهذه الفريضة: أن تكون وسط شعبٍ مجاهد، أو وسط أمةٍ مجاهدة، قد أحيت هذه الفريضة، قد تعاونت على إحيائها وإقامتها، وأصبحت تتحرك فيها، أنت أمام فرصةٍ حقيقيةٍ لكمال إيمانك.
تكون بعض الوضعيات صعبةً جداً في بيئةٍ، أو في شعبٍ، أو في بلدٍ، لم يبدأ فيه أي تحركٍ في هذا الاتجاه الذي يكتمل فيه إيمانك، فتبقى المسؤولية على الجميع في تقصيرهم، في تخاذلهم، وتكون المسألة بالنسبة لهم مسألة صعبة، حتى يبدؤوا، تكون البداية- عادةً- صعبة.
فإذا تهيأت الظروف، وابتدأت الانطلاقة، وتجاوز الناس الحواجز، التي عادةً ما تكون في البداية حواجز كبيرة، وأصبح الظرف والواقع كله في ظل أجواء الجهاد في سبيل الله، والتحرك في سبيل الله بالمال والنفس، وفي كل مجال من المجالات، في إطار عملٍ مترابطٍ متكامل، فهذه هي نعمةٌ عظيمةٌ جداً، نعمةٌ لكمال الإيمان، وفي نفس الوقت مسؤوليةٌ يكبر فيها ويعظم فيها الإثم عند التخاذل، وعند التقصير، وعند التفريط، وعند التهاون، وعند التنصل عن المسؤولية؛ لأن ظروف المسلمين في واقعها العام هي ظروف تستدعي من كل الأمة أن تتحرك.
وكما قلنا بالأمس: التاريخ يثبت أنَّ كل النكبات الكبرى على الأمة أتتها في ظل تخاذلها عن إحياء هذه الفريضة، وأنَّ أهم المراحل لعزة الأمة، وقوة الأمة، ومنعة الأمة، وحضورها الفاعل في المجتمع البشري، هو: عندما أحيت هذه الفريضة، في المقدمة في عصر رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.
الظروف الراهنة للأمة، ليست ظروفاً بسيطة وعادية، ويبنى على ضوئها التوصيف والتشخيص: بأنه لا حاجة للجهاد في سبيل الله، على العكس من ذلك، حجم التحديات والمخاطر، وما تعيشه الأمة في واقعها، يستدعي منها التحرك بروحٍ إيمانيةٍ جهادية.
الإيمان فيه ما يعزز كل ما تحتاج إليه للقيام بهذه الفريضة، ولهذا كان هناك تلازم ما بين: الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، والإيمان؛ لأن الجهاد في سبيل الله يقوم أساساً على مبدأ الثقة بالله “سبحانه وتعالى”؛ لكي تتحرك في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، لكي تستجيب هذه الاستجابة الكاملة، تحتاج إلى أن تكون واثقاً بالله، متوكلاً على الله “سبحانه وتعالى”، ما الذي يكبِّل الأكثر من الناس عن التحرك في سبيل الله، عن الاستجابة الكاملة لله؟
انعدام ثقتهم بما وعد الله به من النصر، والتمكين، والتأييد، والمعونة.
حجم المخاوف والقلق لدى الكثير من أبناء الأمة، وصولاً إلى اليأس، البعض منهم يعيش حالة اليأس من إمكانية الانتصار، من إمكانية تغيير واقع الأمة، من إمكانية النهوض بهذه الأمة إلى مستوى مواجهة التحديات والأخطار، بالرغم من وجود الشواهد التي تمثل حجةً على الأمة؛ لأنها شواهد من واقع الحياة، مثل:
- انتصار حزب الله في لبنان على العدو الإسرائيلي، أكثر من انتصار، على المستوى العام: انتصار عام 2000، وانتصار عام 2006، انتصارات شاملة، انتصارات كبيرة جداً، مضافاً إلى ذلك الانتصارات المتفرقة، في الغزوات، في العمليات، في الهجوم، في إطار عمليات معينة، مثَّل هذا حجةً على الأمة.
- انتصار المجاهدين في غزة، انتصارات متعددة تمثِّل أيضاً حجةً على الأمة.
- وهكذا تأتي الانتصارات أيضاً في الجبهات الأخرى، التي يقف فيها البعض من أبناء أمتنا موقف الحق، الموقف الذي يرضي الله “سبحانه وتعالى”، فيواجهون الأعداء، ويواجهون التحديات، ويواجهون المخاطر.
- انتصار شعبنا اليمني على مدى سبعة أعوامٍ مضت وانقضت، تحرَّك فيها أعداؤه تحت رعاية الكافرين، وبتنفيذٍ مباشرٍ من المنافقين، لأكبر عدوانٍ في هذه المرحلة على وجه الأرض، وكانت النتيجة هي: الصمود، والتصدي لهذا العدوان، وتحقيق الكثير والكثير من الانتصارات، وإفشال أهداف العدو ومخططاته الرئيسية، التي كان يريد أن يصل فيها إلى نتيجةٍ حاسمة وكاملة.
وهكذا هنا وهناك، وفي العراق، وفي سوريا… وفي مواطن كثيرة.
الشواهد العملية هي تقدِّم دلالةً واضحة من الواقع، تطمئن الناس إلى أن يثقوا بوعد الله “سبحانه وتعالى” لهم، عندما يجاهدون في سبيله، عندما يستجيبون له الاستجابة الكاملة، أنه سيؤيِّدهم بنصره، سيكون معهم، عندما يقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: من الآية153]، {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التوبة: من الآية123]، هو يقدِّم وعداً عظيماً، يطمئن كل إنسانٍ مؤمن؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يتحقق له إيمانه، إذا لم يكن واثقاً بوعد الله، إذا لم يثق بوعد الله، يقرأ وعد الله في القرآن وعداً واضحاً صريحاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: الآية7]، أليس هذا وعداً من الله “سبحانه وتعالى” صريحاً واضحاً بالنصر؟
يقرأ قول الله “سبحانه وتعالى”: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج: من الآية40]، وهو وعدٌ مؤكَّدٌ، بصيغةٍ كافيةٍ في التأكيد.
يقرأ قول الله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: من الآية47]، وهذا التزامٌ يقدِّمه الله “سبحانه وتعالى”، وضمانةٌ إلهية كافية لأي إنسان يثق بالله “سبحانه وتعالى”.
فكيف يمكن أن نقول عمَّن لم يثق بالله، بأنه مؤمنٌ بالله؟! مؤمنٌ بالله لا يثق بالله! كيف يمكن أن يكون الإنسان هكذا؟! وهذا في حقيقة الأمر ما يجعل الكثير من أبناء أمتنا الإسلامية يتنصَّلون عن هذه المسؤولية، عن التحرك في إطار الاستجابة الكاملة لله “سبحانه وتعالى”، وإحياء هذه الفريضة العظيمة، نقصٌ في ثقتهم بالله “تبارك وتعالى”.
فلهذا نلحظ كيف قرن الله مسألة الجهاد بالإيمان؛ لأنه يعبِّر عن ثقتك بالله “سبحانه وتعالى”، وفي حال التنصُّل، قد يكون أهم سببٍ للتنصل عن هذه المسؤولية، وعن إقامة هذه الفريضة، هو: عدم ثقتك بالله “سبحانه وتعالى”، ولهذا أتى في قوله “جلَّ شأنه”: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}[الحجرات: من الآية15]، (لَمْ يَرْتَابُوا)؛ لأنهم وثقوا، وصدَّقوا، وتيقَّنوا، فلم يرتابوا أبداً تجاه وعد الله ووعيده، ولا تجاه ما هم عليه من الحق، وهم يتحركون في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، فهم أهل يقين، أهل ثقة، لديهم كل الثقة بالله “سبحانه وتعالى”، والتصديق القاطع بوعده ووعيده.
جانبٌ آخر أيضاً يعود إلى الإيمان، والجانب الإيماني، إضافةً إلى مسألة الثقة، والتوكل على الله، هو الرغبة فيما عند الله، والمحبة لله، والرجاء فيما وعد الله، ما وعد الله به المجاهدين في سبيله، هو المرغِّب جداً، الشيء الطبيعي للإنسان إذا وثق، إذا صدَّق: أن يرغب؛ لأنه يرغب فيما هو أقل من ذلك بكثير، وعدهم الله بالجنة، {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، ويؤكِّد إلى درجة أن يقول: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}، فهو يعدهم بالجنة، ويقدِّم هذا الوعد بصيغةٍ التزاميةٍ عجيبة، وقدَّمها في كتبه، كتبه السماوية المتعددة: {فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}، وعن طريق موسى، وعيسى، ومحمد “صلوات الله عليهم”، فيؤكِّد المسألة بكل عبارات التأكيد، ويقدِّمها كضمانة مؤكَّدة، أفلا يرغب الإنسان بالجنة؟! من وثق وصدَّق وتيقن وتأكد، أَلَا يقبل من الله هذه الضمانة؟! أَلَا يثق فيها؟! أَلَا يمكنه الاطمئنان إليها، والاعتماد عليها؟! ولهذا المسألة تلامس وجدان الإنسان، ضميره، عمق مشاعره ووجدانه.
عندما يتأمل الإنسان في موقفه من ذلك، ما الذي يثبِّطه؟ ما الذي يؤثر عليه سلباً؟ ما الذي ينفِّره من فريضةٍ هذا مكسبها؟ إضافةً إلى مكاسبها العاجلة في الدنيا نفسها: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}[الصف: من الآية13]، وسيأتي الحديث عن ذلك.
أضف إلى ذلك: الأجر العظيم، العزة، الكرامة، الخير، والرعاية الواسعة من الله، الهداية… أشياء كثيرة جداً وعد بها الله “سبحانه وتعالى”، يفترض أن تكون دافعاً كبيراً، ومرغِّباً عظيماً.
كما أنَّه يدل على اعتزاز الإنسان بانتمائه الإيماني والديني، عندما يتحرك في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، والذين ستتحرك لمواجهتهم من هم؟ هم المجرمون، المعتدون، الأشرار، الطغاة، الظالمون، المفسدون في الأرض، الذين يمثِّلون شراً على المجتمع البشري، والذين هم دائماً ما يكونون في موقع الاعتداء والظلم والتجبر، ويستهدفون الأمة في قيمها، ومبادئها، ومقدَّساتها، ودينها، إضافةً إلى تركيزهم على السيطرة على الأمة، ومقدراتها، وثرواتها، وخيراتها، وما يفعلونه هم يظلمون الأمة، يظلمون الناس، يسومونهم سوء العذاب، فهذه الحالة عندما يكون الإنسان في إطار انتمائه الإيماني، وجزءٌ مما يركِّز عليه الأعداء، هو: طمس هذه الهوية الإيمانية، ومحاربة هذا الانتماء الإيماني الأصيل، عندما يكون في تكامله وأصالته، فهو يمثل إزعاجاً، لهم وهم يحاربونه، في هذه الحالة الإنسان المؤمن، واعتزازه بإيمانه، وقيمة الإيمان، وما يرتبط به في نفسه من سموٍ وكرامة، يجعله راغباً، يرى في هذه الأعمال التي أمرنا الله بها أعمالاً عظيمة، أعمالاً مقدَّسة، أعمالاً مهمة، يشرف بها الإنسان، وفي نفس الوقت تفيد المجتمع، وهي ضروريةٌ لدفع الشر عن المجتمع.
أهمية الجهاد، وأثره، وضرورته لكمال الدين وإقامته: لا يمكن إقامة الدين في واقع الأمة، لكي تحقق لنفسها الاستقلال عن التبعية لأعدائها، وتنظم مسيرة حياتها على أساس انتمائها الإيماني والديني، إلَّا بالجهاد؛ لأن الأعداء- أصلاً- يعملون على الحيلولة دون ذلك.
ما يسعى له أعداء الأمة من الكافرين، ومن معهم من المنافقين: أن تبقى الأمة خاضعةً لأعدائها، لسياساتهم، لتدابيرهم، لإملاءاتهم، لما يريدون أن يفرضوه هم على الأمة، وهو شرٌ على الأمة، وضرٌ على الأمة، وفسادٌ على الأمة، ولكنه يحقق مصالح أعدائها، فيسعى أعداؤها أن يفرضوه على الأمة؛ ليكون أساساً للسياسات، والمواقف، والأمور التي تُنظَم بها شؤون الأمة في كل مجالات الحياة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية… وغيرها، هم يعملون على هذا الأساس.
عندما تتوجه الأمة توجهاً صادقاً للاستقلال الحقيقي، الذي تفصل به تبعيتها لأعدائها، تفصل هذه التبعية عن أعدائها، وتترك هذه التبعية لأعدائها، وتتَّبع ما أنزل الله، وتتَّبع هدى الله، وتتَّبع الحق الذي من ربها “سبحانه وتعالى”، وتقتدي بنبيها، وتتمسك بقرآنها، وتَنظِم مسيرة حياتها ومواقفها على أساس ذلك، فهذا هو جوهر المشكلة الرئيسية مع الكافرين في كل زمن، الكافرين في هذا العصر، على رأسهم الأمريكيون، والإسرائيليون، ومن معهم، أو في الأزمنة الماضية، فلابدَّ أيضاً من الجهاد في سبيل الله؛ لأن الأمة تُحَارَب في أن تتوجه كهذا التوجه الاستقلالي المتحرر.
ويصبح الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى” مع ذلك، مع الانتماء الإيماني، معياراً يبيِّن مدى مصداقية الإنسان في انتمائه الإيماني؛ لأن الكل من المنتمين للإسلام يأتون ليقولوا عن أنفسهم: بأنهم من المؤمنين، ومن الذين آمنوا، وأنهم في خط الإيمان، وفي طريق الإيمان، فيأتي قول الله “سبحانه وتعالى”: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}[التوبة: من الآية16]، يعني: لابدَّ من أن تُختَبروا في مصداقيتكم، في انتمائكم الإيماني، عن طريق (الجهاد، والولاء)، في جهادكم وولائكم، ما يمكن أن يمثل معياراً حقيقياً يكشف المصداقية، مع اهتمام الإنسان ببقية فرائض الدين، والتزاماته الإيمانية الأخرى، لكن يأتي أيضاً هذا، هذا الالتزام: الجهاد، والولاء.
{وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}؛ لأن الذي يوالي أعداء الله، يوالي خارج هذا الإطار: خارج إطار الله، ورسوله، والمؤمنين، فيوالي الكافرين، يوالي المنافقين، يعتبر من صف المنافقين بولائه لهم، فالخروج عن هذا الإطار الإيماني في الولاء، وعدم القيام بهذه المسؤولية في الجهاد في سبيل الله، في المجالات الجهادية، يجعل الإنسان مفضوحاً ومكشوفاً، وأنه غير صادق في انتمائه الإيماني.
يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد: الآية31]، تمثل الأحداث نفسها، التي هي ضمن واقع الحياة، ومن واقع الحياة، تمثل اختباراً لك في الموقف، والموقف جزءٌ أساسيٌ من الدين، موقفك، عندما تريد أن تجعل موقفك بعيداً عن انتمائك الإيماني، عن انتمائك الديني، عن علاقتك بالله “سبحانه وتعالى”، وتجعله وفقاً لمزاجك الشخصي: إمَّا في إطار مخاوفك، وإمَّا في إطار رغباتك وأهوائك، فهي حالةٌ تكشفك، أنك بعيد عن الانتماء الصادق، عن مصداقية الانتماء.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ}، المجاهدين الذين يستمرون، العبارة نفسها تفيد الاستمرارية في الجهاد، ليست على أساس أن تتجه إلى مرحلة معينة، ثم تكتفي، وتقول: [أنا قد قمت بواجبي، وأدَّيت ما عليّ، ولم يعد عليّ أي اهتمام، ولا أي التزام، ولا أي شيء نهائياً]، وتتنصل بدون عذرٍ من الأعذار التي ذكرها الله في القرآن الكريم.
{وَالصَّابِرِينَ}: الذين يستمرون في صبرهم تجاه مختلف التحديات.
فيمثل معياراً مهماً، يجعله الله “سبحانه وتعالى” مفيداً حتى للإنسان تجاه نفسه، وحتى للمجتمع تجاه بعضه البعض؛ لأن البعض من الناس قد ينظرون إلى البعض الآخر، إلى أنهم من المؤمنين المتدينين، الذين يمثِّلون الإيمان على أرقى المستويات، وأنهم في موقع القدوة الإيمانية، يعني: يرى فيهم القدوة الذين يقتدي بهم في طريقتهم الإيمانية، وقد يكونون ممن هم معرضون كلياً عن مسألة الجهاد في سبيل الله، وعن الموقف الحق، مضربون تماماً عن ذلك، ففي معيار الله، في ميزان الله الحق، ليسوا من المؤمنين، ولا ممن يُقتَدى بهم إيمانياً، فيمكن للإنسان أن يحذر من ذلك، ألَّا يقتدي بهم، أن يتركهم فيما هم عليه، فيما ارتضوه لأنفسهم، وأن يسعى لكمال إيمانه؛ لأنه بحاجةٍ إلى ذلك.
عندما يأتي يوم القيامة سيكون الحجة عليه هو القرآن، آيات الله، كلمات الله، {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ}[المؤمنون: من الآية105]، لن ينفعه فلان، ولا فلان، ولا فلان، الذي رأى فيه أنه العابد، الزاهد، المؤمن، المتدين، الذي ليس له أي موقفٍ ضد أعداء الله، وليس على استعداد أن يكون له حتى كلمة واحدة ضد أعداء الله، ويبذل كل جهده في أن يحتاط وينتبه من أن تخرج منه ولو ربع كلمة، ولو أي شيءٍ يعبِّر عن موقف، موقف حق ضد أعداء الله، واتجاهه مُضْرِبٌ عن ذلك كلياً، فهذه المسألة مسألة خطيرة على الإنسان.
البعض قد يُفَصِّل له القدوة الذي يقتدي به وفق مزاجه الشخصي، [قدوة رطيب]، يتصور أنه لا يسبب له المشاكل، ولا يدفع به إلى ما هو صعب، الناس ينظرون إلى مسألة الجهاد في سبيل الله وكأنها مسألة صعبة، وكأنها مسألة معقَّدة، لكن المعيار الحق هو معيار الله، الذي جعله هو معياراً يجلّي واقع عباده:
من هو المستجيب كامل الاستجابة لربه، من هو المطيع حقاً، من هو الواثق بربه حقاً، من هو الذي ارتقت علاقته الإيمانية إلى المستوى الأعلى، في استعداده حتى أن يضحي بنفسه في سبيل الله “سبحانه وتعالى”.
ومن هو المستجيب في حدود معينة، في إطار معين، بعيداً عن مخاوف معينة وأخطار وصعوبات وتحديات، وفي هامشٍ محدود.
من أهم ما يتعلق بالجهاد في سبيل الله تعالى: أنه الوسيلة المجدية، النافعة، الصحيحة، الممكنة، الواقعية، لدفع شر الأعداء، لدفع شر المجرمين، والمفسدين، والطغاة المتسلِّطين، من الكافرين، والمنافقين، والفاسقين، الجهاد في سبيل الله لابدَّ منه في ذلك، والله جعله أساساً لرعاية العباد وحمايتهم؛ لأن الله غني، نحن عندما نقول عن أهمية الجهاد، لا يعني ذلك أنَّ الله بحاجة إلينا، ولا بحاجة إلى جهادنا، الجهاد ليس عملية دفاع عن الله، “سبحانه وتعالى” هو القاهر فوق عباده، هو المهيمن، هو العزيز الجبار، هو ملك السماوات والأرض، هو العزيز الذي لا يغالب، القوي العزيز، الجهاد جعله الله وسيلةً لنا نحن، الذين نجاهدهم من هم؟ الأشرار، الذين يتوجه شرهم علينا، المجرمون، الذين يرتكبون الجرائم بحقنا وفي واقعنا، الطغاة، المتسلطون، المفسدون، الذين يتوجه كل فسادهم، كل ظلمهم، كل طغيانهم، كل إجرامهم علينا نحن، فهو وسيلةٌ لنا نحن، نرتقي من خلالها إلى مستوى المنعة، القوة، العزة.
مشكلة الأمة أنها عندما عطَّلت فريضة الجهاد في سبيل الله كثيراً؛ ضعفت، فصعبت الأمور عليها، لكن عند كسر الحاجز، عند النهوض بهذه المسؤولية، هي بنفسها تنهض بالأمة إذا نهضت بها، تقوى بها الأمة، والواقع أثبت ذلك:
المجاهدون في فلسطين ألم يقووا بالجهاد؟ حزب الله ألم يقوَ بالجهاد؟ الجمهورية الإسلامية ألم تقوى بالجهاد، إلى مستوى متقدم وصلت من العزة والمنعة؟ المجاهدون في العراق ألم يقووا بالجهاد؟ عندنا في اليمن ألم نقوى بالجهاد؟ في التاريخ بكله، في مسيرة الإسلام الأولى، في حركة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” وهو الأسوة والقدوة، ألم يقوَ المسلمون بالجهاد؟ كانوا في حالة استضعاف، في حالة قهر، في حالة اضطهاد، قال الله لهم: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}[آل عمران: من الآية123]، كانوا في وضعية قهر، واضطهاد، وإذلال، فمنحهم الله بالجهاد النصر، والقوة، واستمر المسار التصاعدي في قوتهم، إلى أن وصل المسلمون آنذاك إلى الأمة الأقوى في الساحة العالمية، الأمة التي تهاوت وتساقطت أمامها جيوش دول كبرى، وامبراطوريات ضخمة آنذاك قائمة على وجه الأرض، كان ذلك بالجهاد.
مستوى التحديات، والحالة العدائية الشديدة جداً، التي واجهها النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” في محيطه العربي، والعرب كانوا آنذاك شرسين جداً في القتال، وأشداء جداً في القتال في العصر الجاهلي، وكانوا يقاتلون على أبسط الأمور أشرس القتال وأشده، فتحرَّكوا وارتبط معهم أيضاً الخبث اليهودي، تحالفوا مع اليهود ضد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” وضد المسلمين، وكان المسلمون قلة في العدد، وكانت إمكاناتهم متواضعة، ويعيشون الظروف الصعبة، ويتحركون بالممكن، والمستطاع، والحاصل، فيتحركون ويأخذون بأسباب النصر، لكن كان أداء رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” ونشاطه المكثف، الذي استمر- كما قلنا بالأمس- استمر من الشهر السابع في السنة الأولى للهجرة، الذي هو بعث السرايا المقاتلة، والاستكشافية، والعسكرية، استمر بعد ذلك أيضاً معه الغزوات الكبرى بشكلٍ مكثف، لم يتوقف ولا لعامٍ واحد، بل في العام الواحد في معظم الأشهر، في شهر كذا سريةٌ إلى مكان كذا، وفي شهر كذا سريةٌ إلى مكان كذا، وحرَّك الضربات الاستباقية، التي أبطل بها وأفشل فيها الكثير من المؤامرات، وبنشاط مكثف على مستوى التعبئة للمسلمين، والتحريض المستمر لهم، لم يكن يسكت عن موضوع الجهاد، ويعتبره من الأمور التي يُسكَت عنها، فلا يُتَكَلم بها، لا في خطبة، ولا في جمعة، ولا في جماعة، ولا في أي مناسبة، الله قال له: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}[الأنفال: من الآية65]، {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء: من الآية84]، فكان يستمر في تحريضهم، في تشجيعهم، في إثارتهم للانطلاقة في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، وفي- على المستوى العملي- في تحريكهم في السرايا، والتحرك في الغزوات الكبرى أيضاً، وبشكلٍ مكثف، حتى الرمق الأخير، عندما كان في مرضه الذي توفي فيه “صلوات الله عليه وعلى آله”، وهو يعدّ قوةً عسكرية لتتحرك في مواجهة الروم، حتى في تلك اللحظات، فكان من آخر ما ختم به حياته “صلوات الله عليه وعلى آله”، وهو يحضِّر، ويعدّ، ويجهِّز، ويؤكِّد، ويدفع في تحريك تلك الغزوة، غزوة أسامة، وللأسف لم تتحرك تلك الغزوة، وتوفي قبل أن تتحرك.
على كلٍّ يُعتَبر هذا الموضوع مهماً لهذا الأمر: لدفع شر الأعداء، للحصول على النصر في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، الأعداء يتحرَّكون بعدائيةٍ شديدةٍ، وباهتمامٍ كبير، وهذا مؤسف، أن يكون أعداء المسلمين أكثر اهتماماً من المسلمين، وأكثر جديةً وهم في موقع العدوان على المسلمين، فيتحركون بجديةٍ كبيرة، واهتمامٍ كبير، وينشطون في مختلف المؤامرات التي يستهدفون بها الأمة، وفي كل المجالات.
الله يقول “سبحانه وتعالى” فيما يتعلق بهذا الجانب: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}[النساء: الآية84]، فمثَّل التحرك في سبيل الله، والاستجابة لله “سبحانه وتعالى”، عاملاً مهماً في أن تحظى الأمة بنصر الله وتأييده، فينصرها على أعدائها.
الأمة بحاجة في مواجهة التحديات والأخطار إلى معونة الله، إلى أن يكون الله معها، بحاجةٍ إلى الله، فإذا أردنا أن يكون الله معنا، وأن ينصرنا على أعدائنا، وأن يؤيِّدنا على أعدائنا، لابدَّ أن نستجيب له الاستجابة الكاملة، الاستجابة الصادقة، فنتحرك في سبيله بدافعٍ إيماني، والتزامٍ إيماني في أدائنا العملي، وأن نسعى لأن تكون استجابتنا استجابةً كاملة، فيكون الله معنا، فينصرنا على أعدائنا، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.
والأعداء هم شديدو العداء لأمتنا، وهم متوحشون، مجرمون، عندما يتمكنوا من السيطرة؛ يبطشون بالأمة، يظلمونها، يقهرونها، ينتهكون الحرمات، لا يعطون أي اعتبار لأي شيء، وهذا ما ثبت في كل مراحل التاريخ وإلى اليوم: وحشية الأعداء، إجرامهم، طغيانهم، استهتارهم بالكرامة الإنسانية، انتهاكهم للحرمات، يقتلون بأبشع جرائم القتل، وبإباداتٍ جماعية، حصل هذا في تاريخنا المعاصر فيما تفعله إسرائيل، وفيما فعلته أمريكا في العراق، وفي غير العراق، وفي أفغانستان، وفيما يفعله المنافقون الذين يقاتلون في صف أمريكا وإسرائيل، مثلما يفعلونه عندنا في اليمن، القتل بطريقة إجرامية ووحشية، العدوانية الواضحة، الاستهتار بكل شيء، الانتهاك للحرمات، الاغتصاب للنساء والأطفال، الجرائم البشعة والمتنوعة.
ظلمهم، وشرهم، وإجرامهم يحتاج إلى ردع، هذا الردع يأتي عن طريق التحرك الجهادي القوي، الذي ترتقي فيه الأمة، وتصل في نهاية المطاف إلى النصر الحاسم، وإلى الردع الكامل، فيردعوا أعداءها.
قال الله عنهم: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}[التوبة: الآية10]، فهم في حقدهم وإجرامهم إلى درجة ألَّا يرقبوا فيك أي اعتبار: لا عهود، ولا التزامات… ولا أي شيءٍ يمكن أن يكونوا قد طمأنوك به، أو تكون أنت قد فكرت أنهم سيراعون ذلك الاعتبار، سيتركونك، لن يتجرؤوا على أن يفعلوا بعض الأمور لاعتبارات معينة، كل الاعتبارات تنتهي، عندما تكون المسألة ما يفعلونه بالمؤمنين، بالمجتمع المسلم، لا يبقى هناك قيود ولا حدود، كل شيءٍ يستباح، تاريخنا المعاصر أثبت ذلك، التاريخ في الماضي أثبت ذلك، القتل الذريع للناس، استباحتهم في حياتهم، في حرمتهم، في كرامتهم… في كل شيء، وتحصل المآسي الكبرى في ظل ذلك.
استنطقوا التاريخ الماضي، واستنطقوا التاريخ المعاصر، ماذا حدث من المآسي الكبرى، من الكوارث الكبرى، من الفظائع الكبرى، جرائم رهيبة جداً في القتل الجماعي، جرائم شنيعة في انتهاك الأعراض والحرمات، جرائم كبيرة جداً واضطهاد للناس في كل شيء، حالة رهيبة جداً، ولكن الذاكرة العربية هي ذاكرة ضعيفة، ذاكرةٌ تنسى، تنسى، تمر أحداث، ينساها الناس، ومع ذلك غُيِّبت الكثير من الحقائق عن المناهج الدراسية، غُيِّبت عن التعليم والنشاط التعليمي، غُيِّبت عن الإعلام، لا تتم إعادة التذكير بها؛ لكي يتذكر الناس من جديد.
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}[التوبة: من الآية8]، أحياناً قد يطلقون العبارات التي توحي بما يطمئن الناس، تقدِّم ما هو استرضاءٌ للناس، ولكن وراء ذلك: {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة: من الآية8].
{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: من الآية62]، (تَرَى) ترى سلوكاً ظاهراً، سياسةً واضحة، ممارسات حقيقية في أرض الواقع، يُسَارِعُونَ مسارعة عند أي فرصة، طالما هناك ظروف مهيأة، ليس هناك ردع يردعهم، {يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، لا يحتاجون إلى استثارة، لا يحتاجون إلى مشاكل كبيرة أزعجتهم فحركتهم، هم عدوانيون، أهم شيء لديهم أن تتوفر الفرص الملائمة لذلك، فإذا أصبح هناك ردع، أصبحوا يعيدون الحسابات، وحينها يرتدعون.
كيف كان العدو الإسرائيلي يسارع في الهجوم على مختلف البلدان العربية، كان أحياناً يختلق الذريعة؛ ليبني عليها عملاً عدائياً معيناً، كيف أصبحت حالة الردع في لبنان، عندما أصبح هناك أمة مجاهدة، قوية، مؤمنة، ارتقت في عملها الجهادي والإيماني إلى مستوى الردع، أصبح يحسب ألف ألف حساب لأي عمل يريد أن يقدم عليه، غابت تلك الجرأة التي كان يسارع فيها مسارعة لاكتساح الميدان، تغيرت الأمور، في غزة كذلك أصبحت الظروف مختلفة، عندما أصبح هناك مجاهدون، وارتقوا في جهادهم، كلما استمرت الأمة، الاستمرارية مسألة أساسية في أن تزداد قوةً ومنعةً، وفي أن تترجم التزامها الإيماني المستمر، الذي تحظى فيه بمعونة الله “تبارك وتعالى”.
الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى” يطول الكلام عنه كثيراً كثيراً في القرآن الكريم، ولا يتسع المقام للحديث عن كل جوانبه، لكن من أهم ما يجب أن نعيه عنه: أنه أيضاً عاملٌ مهمٌ في بناء الأمة وقوتها، وعاملٌ لنهضتها، الله “سبحانه وتعالى” عندما قال في القرآن الكريم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}[الأنفال: الآية60]، هذه الآية لوحدها لو عمل بها المسلمون، لما كانوا وصلوا في هذا الزمن إلى ما وصلوا إليه من الضعف، لكانوا هم أقوى الأمم، وأمنع الأمم، وأعز الأمم بكلها، ولكي ينهضوا من جديد، لكي يتحولوا إلى أمةٍ قوية من جديد، لابدَّ لهم من العمل بهذه الآية، أن يستشعروا الخطر، والتحدي المتمثل بعدوهم، وأن يتجهوا لإعداد كل ما يستطيعون من القوة في كل المجالات: على المستوى العسكري القوة العسكرية، على المستوى الاقتصادي… على كل المجالات، تكون القوة وامتلاك القوة في إطار الإيمان هي عنوانٌ أساسيٌ، وهدفٌ رئيسيٌ لأنشطتهم وتحركاتهم.
للأسف الشديد كان البديل عن ذلك هو: عنوان الضعف، والتلاشي، وترك كل عوامل القوة، وكل أسباب القوة، من أهم ما في الجهاد في سبيل الله: أنه يمثل دافعاً، إلى درجة أن يكون دافعاً ضاغطاً بامتلاك القوة؛ لأنك عندما تكون في ميدان المواجهة، وأنت تنازل العدو، وتواجه العدو، تدرك أهمية القوة، وقيمة القوة، وأهمية أن تمتلك المزيد والمزيد من القوة، فتسعى لذلك، عندك الحافز، عند الدافع.
لاحظوا، في بركة الجهاد في عصرنا هذا، في زمننا هذا، في واقع حزب الله، في واقع المجاهدين في فلسطين، في واقع الجمهورية الإسلامية في إيران، في واقع المجاهدين في العراق، في واقع المجاهدين في كل بقعةٍ من بقاع العالم الإسلامي، عندنا في اليمن، الواقع الذي يتجه فيه الناس لمواجهة التحديات، وهم يعتمدون على الله في موقف الحق، ويمتلكون القضية العادلة، ويتحركون في سبيل الله تعالى، وهم يواجهون التحديات، يشعرون بضغط الواقع، بطبيعة الظروف والتحديات، من الأوجاع والآلام في ميدان المواجهات والأحداث، يتجهون بجدية، بحافز كبير، باهتمامٍ كبير، إلى امتلاك القوة، إلى صناعة القوة، إلى تطوير وسائل القوة، إلى الأخذ بكل أسباب القوة، تصبح هذه مسألة مهمة بالنسبة لهم، الآخرون لا يشعرون بأهمية الأشياء، ولا الحاجة إليها؛ لأنهم ليسوا في وارد أن يهتموا بذلك أصلاً، وأن يتحركوا على أساس ذلك أصلاً.
تعطيل فريضة الجهاد من أهم عوامل ضعف الأمة، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في كل المجالات: ضعفها اقتصادياً، ضعفها عسكرياً… ضعفها في كل المجالات، حتى على المستوى الحضاري والنهضة الحضارية.
الآخرون اتجهوا وكأن الآية نزلت إليهم، كأن الآية هذه نزلت في أمريكا على الأمريكيين، أو على الأوروبيين، أو على الصينيين، أو على الروس… أو على أيٍّ من تلك الأمم الأخرى، كأنهم هم أصحاب هذا الشأن، كأنهم من خُوِطبوا، فاتجهوا بكل ما يستطيعون، ويستمرون على ذلك، ويصبح بالنسبة لهم الموضوع موضوع رئيسي، وسعي مستمر في امتلاك المزيد والمزيد من القوة، والاتجاه نحو أن يكون أقوى وأقوى، وهذا نهض بهم، أفادهم في دنياهم.
المسلمون حين عطَّلوا هذا الجانب، خسروا في دينهم ودنياهم، تضرروا كثيراً، ضعفوا، قهرهم أعداؤهم، أذلهم أعداؤهم.
ولذلك من بركات الجهاد: أن الأمة تتجه، ولديها الحافز الكبير، وهو: التحدي، والخطر، والمواجهة، والحاجة، إلى المزيد والمزيد من القوة، إلى مستوى صناعة السلاح العسكري، والعتاد الحربي، وصناعة المتطلبات المتنوعة، وتوفيرها، وتطوير كل الوسائل الممكنة، فيمثل فعلاً عامل نهضة، عامل قوة، تتجه الأمة إلى أن تبني نفسها، تُقَوِّي واقعها، أن تُعِدَّ ما تستطيعه من القوة في كل المجالات، والقوة هذه يجب أن تكون قبل كل شيء قوة الإيمان، أن تكون قوة الإيمان، إذا توفرت قوة الإيمان، قوة الوعي، تجعل الناس يتجهون في الميدان بكل ثقة للإعداد.
وهنا لاحظوا، إلى درجة أنَّ الله أراد للمسلمين أن يمتلكوا القوة إلى درجة أن يمتلكوا الردع في مواجهة أعداء الله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، هذا ما يسمى في المصطلحات المعاصرة والتعبير المعاصر بـ(الردع)، يعني: أن تمتلكوا من القوة، ومظاهر القوة، وأن تعدُّوا من القوة، وفي مقدمتها القوة العسكرية، إضافةً إلى كل عناصر القوة التي تتطلبها المواجهة، ما يردع أعداءكم عنكم، ما يجعلهم يحسبون لكم ألف حساب، ما يجعلهم يتهيَّبون من مواجهتكم، ما يجعلهم ينظرون إليكم إلى أنكم أمة قوية، يصعب كسرها، يصعب السيطرة عليها، يصعب إذلالها، وأن مواجهتها ستسبب كلفة كبيرة على العدو، وتخسَّره كثيراً، وأنه قد يهزم في مثل تلك المواجهة ويخسر، ولا يصل إلى المطلوب.
هذه النتيجة يجب أن يسعى لها المؤمنون، أن يعوا أهميتها، أن يدركوا قيمتها وإيجابيتها، وأنها هي التي ترتقي بالأمة إلى مستوى التغلب على التحديات والصعوبات؛ وبالتالي التغلب على العدو.
عندما نشاهد مثلاً: في واقعنا المعاصر، كمثال واضح، وظاهر، وقائم: الجمهورية الإسلامية في إيران، قوة هناك يعاديها الغرب أشد عداء، أمريكا وإسرائيل تعتبرها العدو الأول في المنطقة، في كل المراحل الماضية، منذ قيام الثورة الإسلامية وإلى اليوم، هناك تحريض أمريكي إسرائيلي شديد جداً ضدها، واستنفار ودفع بالآخرين لعدائها، لكن هناك تهيُّب أمريكي إسرائيلي، مع وجود العداء الشديد، والحقد الشديد جداً، تهيُّب كبير من الدخول في حربٍ مباشرة معها، لماذا؟ لأنهم ينظرون إليها كقوة، وقوة تنامت، ويقلقون من تناميها أكثر وأكثر.
أيضاً مثلاً: في لبنان، في غزة، كيف أصبح العدو الإسرائيلي يتهيَّب كل عام أكثر فأكثر من الدخول في مواجهة مع حزب الله، أو مع المجاهدين في فلسطين؛ لأنه يعتبرهم باتوا أقوى، كلما كانوا أقوى؛ كلما تهيَّب من مواجهتهم أكثر.
تحالف العدوان اعتبر نفسه حتى هو في الأخير أنه دخل في ورطةٍ كبيرة في المواجهة مع شعبنا، وفي العدوان على شعبنا، أنه تورَّط، وباتت مسألة التوصيف لما وقع فيه بأنه وقع في ورطة مسألة معروفة، لماذا؟ لأنه اصطدم بشعبٍ مسلمٍ، فيه أمةٌ مجاهدة، تتصدى له، وتتحرك في مسارٍ تصاعدي في المواجهة، وفي أن تكون أكثر قوةً في هذه المواجهة، ولمسّ- حتى هو العدو- أنَّ هؤلاء الذين يواجهونه في الميدان باتوا بعد كل مرحلة أقوى مما كانوا عليه سابقاً.
كلما كانت الأمة أقوى؛ كلما تهيّب العدو من مواجهتها، من العدوان عليها، لكن كلما كانت أضعف، كلما كان أكثر جرأة عليها، ويأتي عنوان القوة إلى كل شيء: الإعداد العسكري، الأخوّة، التعاون، قوة الوضع الداخلي في تماسكه، فيما هناك من تعاون، من تظافر للجهود، كل عوامل القوة التي أرشد الله إليها في القرآن الكريم يجب العمل عليها، كلها مهمة، كلها لابدَّ منها.
وهكذا نجد في كل الأشياء، في كل الجوانب، أهمية الجهاد في سبيل الله، وأنه خيرٌ للأمة، الله قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}، فيما يتعلق بالمزاج الشخصي، والنظرة المغلوطة تجاه الموضوع، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، لا تعتمدوا على مزاجكم الشخصي، انظروا إلى الأمور نظرةً واقعية، وانظروا إليها بعين البصيرة، واستنيروا بنور الله؛ لتروا أنَّ في هذا الخير لكم، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: الآية216].
الأمة في مثل هذه الظروف تجاه هذه التحديات، أعداؤنا يستهدفوننا في كل شيء، حربهم قائمة منذ زمانٍ طويل: حرب سياسية، حرب اقتصادية، حرب عسكرية، حرب أمنية، حرب ناعمة، للإفساد، وللتضليل، حرب بكل أشكالها، لابدَّ أن نكون في واقعنا الإيماني مجاهدين في سبيل الله، نحمل الروحية الجهادية؛ لكي نكون في إطار التصدي لكل أشكال حرب العدو، وللأخذ بكل أسباب القوة، وأسباب النصر الإلهي، وإلَّا معنى ذلك: أن يخسر الناس، إذا انتصر العدو عليك، سواءً في حربه الناعمة، أو الصلبة، في أي مجالٍ من المجالات؛ هذا نتاجٌ لتقصيرك، لإهمالك، لغفلتك، عندما تكون الأمة في حالة غفلة، في حالة تنصلٍ عن المسؤولية، في حالة برود، في حالة إهمال، في حالةٍ تتعامى فيها عن المخاطر الحقيقية عليها، فهي حالةٌ خطيرةٌ عليها في الدنيا والآخرة.
لو ارتضت أمةٌ، أو شعبٌ، أو ناسٌ، أو قومٌ، أو جماعةٌ، لنفسها أن تخضع لأعدائها في هذه الحياة، أن تستسلم، ألَّا تكون في موقع التحدي، في موقع التصدي، في موقع المواجهة، وأن تكون في حال التنصل عن المسؤولية، والتمكين للعدو، والتماشي مع ما يريده العدو، وترك المجال أمام العدو ليفعل ما يشاء ويريد، والخضوع ضمن ذلك لما يفرضه العدو، فهذه الحالة حالةٌ خطيرةٌ جداً، لن يرضاها لنفسه شخصٌ، أو قومٌ، أو ناسٌ، أو مجتمعٌ، إلِّا وقد أصبحوا خالين من الإيمان، الإيمان له أثر عظيم في سمو النفس، في كرامتها، في عزتها، في إبائها، في حبها للخير، في كرهها للظلم، في مقتها للفساد، وأيضاً فقدوا كرامتهم الإنسانية، لم يعد لديهم حتى القيم الفطرية الإنسانية العادية، في أن يكونوا أحراراً، في أن يكونوا أعزاء، في ألَّا يذلوا، ألَّا يضاموا، ألَّا يقهروا، ألَّا يهانوا.
ولكن حتى لو رضي البعض لأنفسهم كل ذلك، فالخطر هو ما وراء ذلك: جهنم والعياذ بالله، جهنم، لو رضيت أمةٌ لنفسها بالهوان، وكان خيارها الاستسلام، وخضعت للأعداء وذلت، وهانت لهم، وقبلت بما يريدونه منها، وفرضوا عليها ما أرادوا أن يفرضوه فيها، فخضعت لهم فيما هو معصيةٌ لله “سبحانه وتعالى”، وذلٌ، وهوانٌ، وخسران، فوراء ذلك جهنم، وراء ذلك جهنم، ذلٌ في الدنيا، اضطهاد، قهر، ضيم، هوان، خزي، دناءة، انحطاط، فساد، سقوط، ووراء ذلك جهنم والعياذ بالله، {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التوبة: الآية39]، {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا}، المسألة تضركم أنتم، المسألة خطيرةٌ عليكم أنتم.
ولذلك يجب أن يكون الإنسان المؤمن، الذي يعتبر نفسه في طريق الإيمان، في موقع التصدي، يحمل الروحية الجهادية تجاه مؤامرات الأعداء، ويحمل الوعي؛ لأن جانباً أساسياً من المعركة مع العدو: هو معركة الوعي، وأن نتسلح بالوعي، هو من أهم السلاح الذي يجب أن نتسلح به، وأن نحمله في مواجهة العدو؛ لكي ننازله في الميدان في كل مجال.
أعداؤنا يحقدون علينا على المستوى الديني والإيماني، ويعبِّرون عن حقدهم في كل زمان، بكل الوسائل، عن حقدهم على قرآننا، عن حقدهم على رسولنا، عن حقدهم على مقدساتنا، عن حقدهم حتى على شعائرنا الدينية، يتضح هذا في ممارساتهم.
كم يتحركون في الغرب- وآخرها ما كان في السويد- لإحراق المصحف الشريف، لماذا هذا؟ لماذا سعيهم لإحراق المصحف الشريف، أقدس المقدسات لدى الأمة الإسلامية، ولدى المسلمين؟ حقد، كره، عداء شديد لك أنت، ولدينك، ولمعتقدك، ولما تعتز به، واستفزازٌ كبيرٌ للمسلمين، واستهانة، وتحدٍ لكرامتهم، وإساءة إلى المسلمين كبيرة جداً.
كم يصدر من إساءات إلى رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” في المجتمع الغربي؟ كم يحصل من تعدٍ على المسلمين في شعائرهم الدينية، واستهداف لمقدساتهم؟ ما الذي يحصل في فلسطين كل يوم؟ لا يكاد يمر يوم إلَّا ويحصل استهداف وانتهاك لحرمة المسجد الأقصى، واعتداء على المصلين، حقد علينا على مستوى انتمائنا الديني.
لو وصلت الأمة إلى درجة ألَّا يمثل لها دينها، مقدساتها، رمزها العظيم: رسول الله محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، كتابها المقدس العظيم: القرآن الكريم المجيد، ألَّا يمثل لها أي قيمة، ويرى الأعداء ذلك، هذا يجعل منها أمةً رخيصةً تافهة، ولقمةً سائغةً لأعدائها، ولا تمثل أي شيء، إذا لم يبق لدى الأمة اعتزازٌ بدينها، اعتزازٌ بمقدساتها، ولم تعد تغضب حتى لأهم ما يجب أن يعتز به الإنسان المؤمن، وأن يقدسه، وأن يعظمه، ثم لا يعد يبالي بذلك، فهو إنسانٌ لم يبق لديه أي شيءٍ يمثل أهمية، أصبح لا شيء في هذه الحياة، سهلاً أمام الأعداء، رخيصاً، تافهاً، لا قيمة عنده لشيء، ولا أهمية عنده لشيء.
على مستوى حياتنا، نحن أمة يطمع أعداؤها في السيطرة عليها كثروة بشرية، في السيطرة على مقدراتها، في السيطرة على أوطانها، في السيطرة على موقعها الجغرافي، في الاستغلال لها، في الاستعباد لها.
لا يحمينا تجاه كل هذه التحديات إلَّا أن نحمل الروحية الجهادية، أن نتحرك في سبيل الله، وفق الطريقة التي رسمها الله لنا؛ لنحظى بنصره، بمعونته، بتأييده.
ما يحصل من استفزازات، وانتهاكات، يجب أن يكون للأمة صوتٌ تجاهه، أن تحتج، أن تعترض، أن تبدي غضبها، أن تتكلم بالحد الأدنى، إذا وصلت الأمة إلى درجة ألَّا تتكلم حتى الكلمة، ألَّا تقول شيئاً تجاه ما يفعله أعداؤها، فهي حالةٌ خطيرةٌ على هذه الأمة عند الله “سبحانه وتعالى”؛ لأنها حالة شنيعة دنيئة من التنصل التام عن المسؤولية، والخنوع التام، وحالة خطيرة جداً تطمع أعداءها جداً فيها، ويرون فرصتهم السانحة للاستهداف لها، والسيطرة عليها في كل شيء، فتخسر دينها ودنياها.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛