صراع التبعية.. أبرز محطاته الإماراتية السعودية

على فترات تاريخية طويلة، تهيأت ظروف العداء المتبادل بين دولتين شقيقتين تتسابقان على القيادة منذ ظهور شكل الدولة في منطقة الجزيرة العربية وحتى اللحظة، وهنا سنستعيد معكم أبرز محطات العداء السعودي الإماراتي على ملكية الأرض والثروات والنفوذ، كعوامل رئيسية لتحديد مراتب القيادة وأتباعها.

 

الجذور

 

يتحدث إماراتيون عن 57 معركة خاضوها في  مواجهة تمدد سعودي سعى للسيطرة على أراضيهم وتجارتهم، كمعركة الوهابية النجدية مع التجار المالكيين في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ومعارك واحة (البريمي) عام 1810م “البيت التقليدي لأسرة آل نهيان ومقصد رعاتها وصائديها”.

 

ثم اشتد العداء كثيراً، باحتلال الملك “فيصل بن عبد العزيز” واحة البريمي كلياً، عقب رحيل الاستعمار البريطاني 1968م، ليضع الإمارات أمام الأمر الواقع، في نفس التوقيت الذي تجري فيه مفاوضات لتشكيل دولتها المرفوضة سعودياً، إلى ما بعد الإعلان عن النشوء الإمارتي الموحد بأربعة أعوام. من عام 1971م تعترف

 

حيث خضعت الإمارات نتيجة عدم الاعتراف السعودي بالنشوء الموحَّد، وتفكيكه عبر مخاطبة كل إمارة على حِدة، وتقويض الحكومة المركزية الجديدة في أبو ظبي. لم تتمكن الإمارات من مجاراة نزعة الوصاية السعودية، فخضعت مجبرة لتوقيع اتفاقية جدة 1974م لترسيم الحدود “الظالمة” بالنسبة لها، والتي شكلت عنوناً بارزاً لعداء جديد.

 

الاتفاقية نصت على استعادت الإمارات واحة البريمي، لكن المقابل الذي قدمته للسعودية كلفها التنازل عن “حقل شيبة” داخل الأراضي الإماراتية، والتضحية بـ (خور العديد) نقطة الاتصال البري الوحيدة الرابطة بين الإمارات وقطر.

 

نجحت السعودية في انتزاع مساحات إماراتية استراتيجية واستتباع حكامها بالقوة الفارضة، في حين قبلت الأخيرة على مضض، محتفظة بحقوق وثأر البدايات إلى حين آخر.

 

على ذمة التاريخ (1)

 

ظلت التبعية الإماراتية للسعودية قائمة على مدى عقود، مع احتفاظ السعودية بمركزها القيادي دون منافس. لكن التحولات السياسية، والاقتصادية الفارقة في الإمارات، أعادت إليها ناستولجيا العداء مع السعودية.

 

في 1995م، تصاعدت النبرة الإمارتية بشأن إعادة النظر في اتفاقيات جدة “الظالمة” فقوبلت برفض الملك السعودي خالد بن عبد العزيز. وفي 1999م، لوحت الإمارات بالانسحاب من مجلس التعاون، احتجاجاً على التقارب السعودي الإيراني حينها، دون مراعاة دعوى الإمارات في ملكية الجزر الاستراتيجية الثلاث التي تقول إن إيران “احتلتها” مطلع السبعينات.

 

هذا التلويح المتجاوز لخطوط الخليج الحمراء، قوبل برد قاسٍ أطلقه الراحل سلطان بن عبدالعزيز في لحظة غضب علنية قائلاً: “الإمارات دولة نصف إيرانية”.

 

لم يكن وصف السعودية الإمارات بدولة “نصف إيرانية” نقطة عداء وحيدة تضاف إلى عداء البلدين القديم.

 

قبل أشهر تقريباً من الوصف، قاطعت الإمارات حضور محفل سعودي كبير بحضور كبرى شركات ووزراء النفط حول العالم، استعداداً لتدشين العمل على حقل “شيبة” الذي تقول الإمارات إنها تنازلت عنه في لحظة ضعف.

 

إن السلوك الإماراتي بصرف النظر عن الحقوق التاريخية، وموازين الحق والباطل، لم يكن إلا مؤشراً عن رغبة استقلال من التبعية التقليدية للرياض، يليه استتباع الأخيرة لأبو ظبي لاحقاً، استناداً على مبدأ تداول القيادة، واتكاءً على ثأر العداوات القديمة.

 

وهو ما برزت معالمه أكثر في الألفية الثانية، مع تنصيب محمد بن زايد آل نهيان ولياً للعهد عام 2004م، بعد وفاة والده المؤسس.

وكشفت عن جانب من ذلك وثائق سرَّبتها منظمة ويكليكس، يظهر فيها ابن زايد حاقداً على النظام السعودي ومندفعاً نحو لقاء المسؤولين الأمريكيين لتبادل الآراء وتزاوج النيات المعادية للسعودية.

 

في يناير/ كانون الثاني عام 2003، قال محمد بن زايد لمسؤول تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية ريتشارد هاس “إن شعب السعودية ينتظر دَفعة من أمريكا لتغيير النظام السعودي” مستدلاً باستطلاع للرأي العام خلص إلى أن 90% من الشعب السعودي يتطلعون إلى تغيير النظام.

 

وعام 2004، نوفمبر/ تشرين الثاني، أخبر ابن زايد المبعوث التجاري الأمريكي روبرت زوليك، عن مخاوفه من تهديد الإرهابيين والمهربين القادمين من المملكة السعودية وسلطنة عمان، وقال إن بلاده تخطط لبناء جدار يبلغ طوله 525 ميلاً على الحدود  مع الدولتين.

 

وبحسب وثيقة يعود تاريخيها إلى 2007م فإن ابن زايد أكد في لقاء جمعه بالدبلوماسي الأمريكي نيكولاس بيرنز، والسفير جيمس جيفري، أن 80% من الجيش الإماراتي، البالغ عدده حينها 60 ألفاً،  سيستجيبون لأي دعوة من قِبل رجال الدين في مكة. ولفت إلى أنه حين يسافر إلى المملكة يلتقي قادةً تتراوح أعمارهم بين 80 85 -عاماً لم يسمعوا عن الإنترنت إلا في سبعينات أعمارهم.

 

وقياساً على ذلك، فالنظام السعودي في نظر ابن زايد متخلفٌ ومستبدٌ وقائمٌ على مجموعة من القادة العجزة، ورجال الدين المتطرفين، وبالتالي لا بد من لحظة ثورية مارقة، تعيد الحياة السعودية إلى نصابها الإماراتي، وتعيد للأخيرة كرامتها المهدورة على الحدود والحقول.

 

لكن فشل ولي العهد الإماراتي في اقناع الأمريكيين بالاستيلاء على السعودية عسكرياً، لم يكن نتيجة عجز في أساليب عرضه للفكرة المقنعة، أكثر منها معرفة، ورضى، وقناعة الأمريكان المسبقة بوجوه السعودية وآلية الحكم، قبل أن يخلق بن زايد تقريباً.

 

لقد شكلت الوثائق السرية -التي كُشفت للسعودية قبل أن تُكشف للرأي العام -مرحلة عداء جديدة، مع فارق قوة التأثير الإماراتية عن ضعفها القديم. وبالتالي شهدنا مكائد، ودسائس، وحتى شتائم علنية تبادلها الطرفان من حين لآخر.

 

على ذمة التاريخ (2)

 

يتكرر الحديث عن ظروف قاهرة للتوقيع على اتفاقية جدة لترسيم الحدود مع السعودية، وفيه استعادة مرة، للحظة إجبار تاريخية قبلتها الإمارات البصيرة واليد القصيرة لحكامها حينها.

 

ما دفع الإمارات في 2006م إلى إعادة نشر خرائط لحدود دولتها تضمنت المناطق المتنازع عليها لتدخل علاقة البلدين جولة جديدة من الصراع والعداء.

 

واجهت السعودية الخطوة الجريئة بعقلية الوصاية التقليدية، ففرضت على الإماراتي إجراءات الوافد من خارج دول المجلس، ومنعت التبادل التجاري، إلى جانب ضغوط استخباراتية شتى؛ أعادت الإمارات مجبرة إلى قفص التبعية دون أن تحرز شيئاً، عدا عن المحاولات الفاشلة والفاضحة لنواياها فقط.

 

تغير موقف الضعف قليلاً عام 2010م، حين فتح زورقان إماراتيان النار على زورق سعودي في “خور العديد” وتم احتجاز اثنين من أفراد حراسته الحدودية، في حدثٍ فارقٍ ينبئ عن مرحلةٍ إماراتيةٍ جديدة تخلصت نسبياً من عوز اليد القصيرة.

الحادثة لم تستعد حدوداً، بقدر ما كانت إعلاناً رمزياً عن إمارات باتت قادرة على أن تفتح النار بوجه السعودية بعد تبعية طويلة، ولم تنس “الملف الحدودي” في أبعاده الاستراتيجية المشبعة بالعدوات القديمة والحديثة.

 

لذلك ظل “حقل شيبة” على بعد 10 كم من أبو ظبي، ذكرى مؤلمة تنتج 500 ألف برميل يومياً لصالح  السعودية، نتيجة “ترسيم الحدود الظالمة في لحظة ضعف”.

 

خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، لم يراوح الفعل الإماراتي حدود التعبير عن الامتعاض من حين لآخر، حتى منتصف العقد الثاني مع تطبيق السعودية سياسات مغايرة لإدارة الحكم، إلى جانب التحول الكبير في صراعات وتحالفات المنطقة بشكل عام، ما مكن الإمارات من الولوج إلى أهدافها العدائية ضد المملكة بلباس التحالف بدلاً عن درع المعركة.

 

ومع تنصيب سلمان بن عبد العزيز ملكاً على السعودية في 2015م، تغيّر موقع الإمارات في معادلة الصراع، ومراتب القيادة الخليجية، وبدى أن تغييراً جذرياً يشتكل في ملامح الوصاية التقليدية الخليجية التي دامت لقعود طويلة.

 

على ذمة التاريخ (3)

 

منذ 2015م ظهرت طفرة الحب الإماراتي المفاجئ للسعودية، مع وفاة أغلب جيل أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود، وتحييد دور الأحياء منهم.

 

قد يرى البعض أن ظهور الأمير الطائش محمد بن سلمان جزءاً من خطة نظيره الإماراتي للسيطرة على قرار المملكة، في حين يرى البعض الآخر أن من دفع به للظهور، هو نفسه من يدير الصراعات البينية الخليجية من واشنطن.

 

وبعيداً عن هذا وذاك، ثمة مشروع لتفكيك الدولة السعودية، وثمة دور إماراتي مأخوذ بماضي العداء، وطموح المستقبل الذي يقتضي إعادة تدوير زوايا القيادة الخليجية.

 

أكدت ذلك الممارسات قبل الوثائق، وفي الأخيرة تعبير على لسان الدبلوماسي المقرب من مصادر صنع القرار الكويتي وسفيرها لدى لبنان عبدالعال القناعي قوله بأن “ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد يعمل على تفكيك المملكة العربية السعودية”.

 

تاريخ تسريب الوثيقة في 20 سبتمبر 2018م، لم يكشف عن مستور، بقدر ما عزز المكشوف منذ تدشينه عام 2015م، فالاختراق الإماراتي للسعودية ليس محض لمسات عَرَضية خفية، بل هو توجيه مباشر للاتجاهات الرسمية السعودية، وتبنٍ للاستراتيجيات التي تنتهجها أبو ظبي.

 

الهدف من ذلك يعيدنا لبذرة العداء الأولى، حول الثروات والتبعية والقيادة، وأدواته اتضحت جلياً، من الذراع الإماراتية الاستخباراتية التي نجحت في اختراق الدوائر الإعلامية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية والبحثية السعودية، بغرض أن تصبح السلطة على كل ما هو سعودي “إماراتيةً”. حتى مؤهلات الحاكم وافقت رغبة الإمارات المنشودة، مع ولي عهد سعودي اكتسب اللغة الانجليزية من الانترنت، وأدار البلد اقتصادياً بوحي من أفلام الخيال العلمي، وسياسياً من مكتسبات الدراما والسينما الأمريكيتين، وعسكرياً بغزو إيران بفيلم كرتوني.

 

بالمقابل لم تعد خافيةً المساعي الإماراتية لشراء حصة النفوذ السعودية في مصر، وليبيا، وسوريا، والسودان، والأردن ودول أخرى في المنطقة. ولتكن اليمن حالة خاصة، فبعد أن قادت السعودية- ومعها الإمارات- عدوانها العسكري ضد جارها الجنوبي في مارس/ آذار 2015، تغيرت المعادلة تماماً لصالح الإمارات.

 

لقد دخلت السعودية عبر وزير دفاعها المتطابق مع مقاييس وأهداف الإمارات، في أزمة اقتصادية كبرى نتيجة فاتورة العدوان المكلفة، بينما حصاد ذلك جنته الإمارات التي سيطرت قواتها على جنوب اليمن المحتل بشكل كامل، ثم على قياداته، وبالتالي قراره.

 

المعادلة الآن في اليمن أن السعودية تنفق على تجارة الإمارات، وبينما هي تخسر وتلاحق الانعكاس العسكري، وتبعات جرائمها أمام المنظمات الدولية، ثمة من يكسب على الأرض ولم يلاحقه شيء.

 

الثأر على ذمة التاريخ (4)

 

منذ الإعلان عن تأسيس المملكة السعودية في العام 1926م، جرت العادة أنها تقود الخليج دون منازع من الأشقاء، لكن التحولات الجذرية في المملكة، أتاحت المجال لا لأن تصبح الإمارات منافساً لقيادة السعودية وحسب، بل وساعياً لتفكيكها على ذمة حسابات تاريخية، وأخرى تتعلق بطموح اللحظة والمستقبل.

 

لا تخفى أيادي الإمارات عن تفكك جغرافي تشهده السعودية اليوم، فالشقيقتان خاضتا حرباً عدوانية على اليمن، أدت بالنتيجة العكسية لأن يبسط الجيش واللجان الشعبية اليمنية سيطرة كاملة على أغلب المواقع والمناطق الاستراتيجية في الجنوب الغربي للسعودية، في ظل حمى الإشراف الميداني الإماراتي على الحدود، ثم فجأة تغير الإمارات استراتيجيتها العسكرية باستراتيجية سلام، وما من دلالة لذلك سوى أن من أوكلت له حماية الحدود، لم يتناسَ ثأر حدوده المتنازع عليها مع السعودية.

في سياق العداء المترابط، تستذكر الإمارات التدخلات السعودية لتعميق خلافات آل راشد وآل مكتوم قبل الإعلان عن تشكيل الاتحاد، فحرص الأمير محمد بن زايد أن يرد الدين التاريخي بخلق الانقسامات الراهنة بالبيت العائلي السعودي الذي ظل متماسكاً لقرن من الزمن.

 

ثم إن فاتورة الحرب العدوانية المدفوعة من خزينة السعودية، هل يجدها ابن زايد في سياق اهدار ثروات شقيقته، كبديل عن عجز استعادة حقوقه المستلبة في حقل “شيبة”؟ وماذا عن الدفع الإماراتي القوي لمحمد بن سلمان في إقصاء الفكر الوهابي السائد منذ السعودية الأولى، هل يندرج ضمن تصفية الحسابات الإماراتية مع الوهابية التي حاربت طويلاً أتباع المذهب المالكي في الإمارات؟

 

قد لا يمكننا القطع بأن مصلحة إماراتية وحيدة تهدف إلى التفكيك المتعمد للسعودية، لكنها جزءٌ فعالٌ فيه، وفي أهدافه، طمعاً في المركز القيادي، وحقداً تاريخياً دفيناً.

 

لكن ما طرأ أخيراً على خلفية المصالحة الخليجية، سيحدث ارباكاً في خطط الإمارات بلا شك، مما قد يبدد أحلامها، ويتهدد مستقبلها.

 

إجمالاً.. حققت الإمارات بعض أهدافها العدائية ضد السعودية بالتحالف أكثر مما حققته بالعداء المباشر، لكن الإمارات قطعاً لم تنتصر؛ فالحدود مع السعودية هي الحدود، وحقل الشيبة ينتج لصالح أرامكو، وخور العديد ربما أغلق ملفه إلى الأبد، وقد تستبدل الأقدار أمير السعودية المتطابق مع مقاييس الإمارات، بالصنف الذي لا يجيد استخدام الانترنت، وربما يكون ممن تنطبق عليهم شتيمة بن زايد بـ”القرد”.

إسحاق المساوى “المسيرة نت”
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى