عظمة الشهادة في سبيل الله
|| مقالات || أبو المرتضى الحاضري
للشهادة في سبيل الله تعالى أبعاد كثيرة، منها أنها كرامة للشهيد فهي اختيار واصطفاء إلهي له، ولذا نغبط الشهيد الذي فاز بالشهادة ونفرح لفوزه بالاصطفاء في نفس الوقت الذي نحزن لسقوط الشهداء ونتألم لأنهم خسارة علينا وعلى المجتمع، الذي يفقد أعظم رجاله وخيرة أبنائه، ولا يتنافى هذا الشعور بالحزن والألم مع افتخارنا واعتزازنا بهم وبذلنا لأنفسنا وللمزيد منهم، ولا مع الإنجازات التي حققوها لمن بعدهم.
ومن أبعاد الشهادة أيضاً أنها حجة على الناس وشهادة عليهم، فالشهيد أدّى ما عليه من واجب وبذل روحه بعد أن جاهد في سبيل الله، فهو حجة على القاعد في المجتمع الذي وجب عليه الجهاد في سبيل الله وخصوصاً جهاد الدفع المتمثل في مقاومة ومواجهة الغزاة والمعتدين كما هو الحال في مواجهة العدوان السعودي الأمريكي.
ومن أبعاد الشهادة كذلك التأكيد على المظلومية التي اندرج تحتها المستضعفون وبالذات الشهيد منهم، حيث أنه واجه المعتدين والغزاة والمجرمين فقُتل مظلومًا، وهو يؤدي واجبه وما افترض الله تعالى عليه مدافعًا عن دينه وبلده ونفسه، وشهادته ترسخ إلى حدٍّ بعيد مظلوميته ومظلومية المجتمع الذي يدافع عنه وعدالة القضية التي يحملها.
وتتجلى عظمة الشهادة في جوانب متعددة وكثيرة منها:
أولاً: الشهادة خير خاتمة
يطلب المؤمنون لأنفسهم دائماً من الله تعالى ويسألونه حسن الخاتمة بأن يجعل خير أعمالهم خواتمها، بمعنى أن يختم سبحانه أعمارهم وهم في عمل صالح وأن لا يميتهم إلا وهو راضٍ عنهم، ويدعون لغيرهم أيضاً بحسن الخاتمة خصوصًا لكبار السن من الشيوخ والعجائز، وللمريض بمرض خطير ومؤلم ميؤوس من شفائه، ويعتقد بعض الشباب الأصحاء الأقوياء الذين في مقتبل العمر أنهم ليسوا بحاجة لحسن الخاتمة لأن العمر المديد أمامهم كما يتصورون، وبعضهم يقول لمن دعا له بحسن الخاتمة : وهل أنا شائب وطاعن في السن حتى تدعو لي بذلك؟ متناسيًا أن الموت لا يُفرِّق بين شيخ كبير وشاب قوي، وأن الخاتمة هي خاتمة العمر سواء طال أم قصر.
والجهاد في سبيل الله تعالى هو من أفضل الأعمال التي يلقى المؤمن بها الله تعالى، والشهادة أفضل خاتمة يختم الله بها للمجاهدين الذين هم خاصة أوليائه، وأكثر من ينالها هم الشباب المؤمنون باعتبارهم أكثر من ينطلق إلى ميادين الجهاد.
ثانيًا: الشهادة ليست نقصاناً من العمر
يظن الكثير من المتقاعسين عن الجهاد في سبيل الله والقاعدين أن من يذهب إلى جبهات القتال ليقاتل في سبيل الله يُقتل ومن يقعد يسلم، لأن الجبهات فيها المعارك والقتال والأسلحة ونقاط التماس مع العدو والمواجهة الشرسة معه في الخطوط الأمامية، ولا يوجد مثل ذلك بالنسبة للقاعد في بيته الذي آثر السلامة والحياة الدنيا على ا لآخرة، متناسين قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ ولكم رأينا مصداق هذه الآية الكريمة في الواقع واضحًا وجليًا من خلال قتلى قصف الطائرات وضحاياها في البيوت والتجمعات السكانية الذين هم أكثر من الشهداء في الجبهات وبالمثل صرعى حوادث السيارات أكثر والذين يموتون بالأمراض والجلطات أكثر.
فالشهادة في سبيل الله على ضوء الآية الكريمة ومضمونها ليست نقصانًا من العمر، بل خاتمة له كما ذكرنا في العنوان السابق، وقد حدث كثيرًا أن قام بعض الآباء والأمهات باسترجاع أبنائهم المجاهدين من الجبهات خوفًا عليهم من القتل، فقُتلوا أمام أنظارهم بقصف أو حادث أو مرض مميت.
ثم لو افترضنا أن مجاهداً في سبيل الله استشهد، وشخصاً آخر قعد ولم يجاهد تعمَّر وعاش بعده، فكم المدة التي سيعيشها هذا القاعد ؟ سنة أو عشراً أو عشرين أو أكثر من ذلك أو أقل، في النهاية أليس مصيره الموت الحتمي بعد حياة قليلة كان فيها عاصيا لله تعالى بتركه الجهاد في سبيله!؟
ألم يردَّ الله تعالى على القاعدين الذي يظنون الشهادة في سبيل الله نقصًا من الأعمار وأن في القعود نجاة من الموت المحتم بقوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ وبقوله سبحانه مخاطبًا هذا الصنف من الناس: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
ثالثًا: الشهادة حياة وليست موتًا
عندما دعا الله سبحانه وتعالى المؤمنين للدفاع عن أنفسهم والجهاد بالمال والنفس في سبيله إنما دعاهم إلى الحياة ولم يدعهم إلى الموت يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم﴾ فالدعوة إلى الجهاد هي دعوة للحياة الكريمة والعزيزة والطيبة، ومن يستشهد من المجاهدين فهو إنما
يَعْبُر بالشهادة من الحياة الدنيا الفانية والزائلة إلى الحياة الكريمة الخالدة في الآخرة، ولذا نهى سبحانه عن مجرد القول للشهداء إنهم أموات، وعدّ ذلك معصية وذنباً وكذباً وافتراءً لأنهم في الحقيقة أحياء، يقول تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ بل نهى عن مجرد الظن والتصور والاعتقاد داخل النفس أنهم أموات حيث يقول: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.
والسؤال هنا: هل نؤمن حقًا بأن الشهداء أحياء يُرزقون؟
صحيح أننا نؤمن بنص الآية الكريمة ولفظها، لكن التصديق الكامل والإيمان الصادق الحقيقي بحياة الشهداء وواقعية هذه الحياة وبدون أدنى شك هو المطلوب، فقد آمنا بما هو أعظم من حياة الشهداء بعد استشهادهم وقتلهم، فآمنا بيوم القيامة وأن الله يبعث من في القبور ويحيي العظام وهي رميم، وآمنا بالجنة وبالنار ولم نرهما وكلها بالنسبة لنا من المستقبل وآمنا بالغيب، فكيف لا نوقن أن الشهداء أحياء وأن الشهادة حياة، والقرآن الكريم قد أخبرنا بذلك.
فلو عاد شهيد تمزقت أشلاؤه أو تفحم جثمانه إلى الدنيا ليخبرنا بهذه التفاصيل من حياة الشهداء، ويقول لنا أنه بعد أن استشهد هو ورفاقه لم يموتوا، وإنما انتقلوا إلى حياة كريمة عند الله تعالى، وأنهم فرحون ومسرورون ومبتهجون بما نالوا من الفضل والكرامة، ومستبشرون برفاقهم من المجاهدين متى يلحقوا بهم، وليسوا نادمين على تضحياتهم، بل يتمنون العودة إلى الدنيا ليلتحقوا مرة أخرى بجبهات القتال طمعًا في الشهادة مرة ثانية وثالثة وعاشرة لصدقناه، وإخبار القرآن الكريم في آياته أبلغ وأصدق مما لو حدث ذلك حقيقة وما قاله النبيض في هذا الشأن كذلك، كقوله: (مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ إلاّ الشَّهِيدُ فَإنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلُ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ)([1]) .
ويمكن توضيح الفرق المعنوي بين الشهيد والميت، في أن الشخص غير المجاهد يحاول الهروب من الموت بكل الطرق وشتى الوسائل ولعل هذا هو السبب في تركه الجهاد مخافة ذلك، فإذا أصابه مرض سارع إلى الأطباء والمستشفيات مخافة أن يهلك، وربما يبيع “ما فوقه وما تحته” كما يقال ويسافر إلى الخارج لتلقي العلاج، وربما يستدين المال الكثير من أجل ذلك، والبعض يصل به الحال إلى مد يده للناس ليتصدقوا عليه بسبب مرضه وحاجته للعلاج، وكل هذا التصرف فطري على كل حال لكن لتبيين الفرق بين الشهيد والميت.
فالميت كان يسعى للحياة بأي ثمن ومع ذلك يموت رغم أنفه، بينما الشهيد كان في بيته صحيحًا معافى، فانطلق مجاهدًا في سبيل الله بعد أن وطّن نفسه على النصر أو القتل في سبيل الله ونيل الشهادة، وبعد أن أوصى أهل بيته بأنه لن يعود من الجبهة إلا حاملًا راية النصر أو محمولاً في نعش الشهادة، وأوصي أمه أو زوجته وقريباته بأن يزغردن إذا عاد شهيدًا وبأن يُزَفَّ إلى روضة الشهداءُ كما يُزف العريس وهذا ما نشاهده كثيرًا في تشييع الشهداء، ثم انطلق إلى جبهة القتال متسلحًا بالإيمان واثقًا بنصر الله تعالى وموقنًا بفضل الشهادة، وهو يعرف ماذا تعني جبهة القتال من شراسة المعارك ومواجهة أعتى الطغاة وأحدث وأفتك الأسلحة في العالم، فخرج من بيته مختارًا للشهادة من تلقاء نفسه ولا دافع له إلا رضا الله تعالى عليه، وحين يسقط شهيدًا في الميدان فهو حيٌ لأنه اختار لقاء الله تعالى فاختاره الله، ولا أحد يسارع للموت من أجل الموت بل الجميع يسارعون إلى الحياة، إما أن يسارعوا إلى بقية من الحياة الدنيا ويحرصون على الحياة فيها كما يفعل من يتشبث بالحياة الدنيا والذي ينتهي بهم المطاف بالموت أو إلى حياة أبدية كريمة كما هو حال المجاهدين والشهداء.
فالشهادة انتقالٌ من الحياة الدنيا إلى الحياة العليا الكريمة عند الله تعالى بكل سلاسة؛ يقول النبي ض (لاَ يَهُونُ عَلَى مُسْلِمٍ خُرُوجُ نَفْسِهِ مِثْلَ مَا يَهُونُ عَلَى الشَّهِيدِ)([2]).
وقد قدم القرآن الكريم شرحاً وافياً عن واقع حياة الشهداء، وذكر تفاصيل دقيقة عن شعورهم وفرحتهم واستبشارهم ورضاهم، وتثبيت إخوانهم من رفاقهم من المجاهدين الذي لم يلحقوا بهم بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
﴾ فالشهداء أحياء بكامل قواهم العقلية وإدراكهم الحسي وشعورهم الكامل ووعيهم لواقع قضيتهم، فهم فرحون ومستبشرون برفاقهم المجاهدين الذين لم يلحقوا بهم متى يرحلوا إليهم بالشهادة، لينالوا من ذلك النعيم والرزق الطيب، ويؤكدون على صوابية الدرب الذي سلكوه والطريق التي مشوها وعدالة القضية التي ضحوا من أجلها.
رابعًا: الشهادة ربح صافٍ واستثمار مضمون
كما سبق أن الشهادة حسن خاتمة وليست نقصانًا من العمر ولا موتًا بل حياة كريمة عند الله تعالى، فهي إذًا ربح صافٍ.
والقتال في سبيل الله تعالى هو متاجرة مع الله تعالى بالنفس والمال يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ فالجهاد فرصة عظيمة لبيع النفس والمال من الله تعالى وعقد صفقة رابحة معه، فالنفس والمال هي البضاعة والثمن الجنة والبائع هو المجاهد والمشتري هو الله سبحانه، وعقد البيع موثق في القرآن الكريم في الآية السابقة، فالثمن عظيم وكبير جدًا مقابل البضاعة التي ما كان أن يُصبح لها هذا الثمن لولا الجهاد في سبيل الله، الذي هو في حد ذاته ضرورة لنا ومكاسبه عائدة علينا.
والشهادة على هذا الاعتبار أيضًا ربح صافٍ والجهاد في سبيل الله استثمار مضمون، بالإضافة إلى أن عملية البيع والشراء تمت في الحياة الدنيا الفانية، والشهيد لم يمت بل حي يُرزق عند الله تعالى ومستبشر بالجنة، ويوم القيامة يستلم الثمن بدخول الجنة بغير حساب وغيره من الموتى يُبعثون للحساب وينتظرون مصيرهم إما إلى الجنة أو إلى النار.
وماذا يريد الناس من عبادتهم لله تعالى، أليسوا يطلبون الجنة ويطمعون فيها ويخافون من النار ويستعيذون منها؟ وهناك من يعبد الله تعالى عقودًا من الزمن ويأتي موقف جهادي واحد يفضل كل تلك العبادة، كما ورد عن رسول اللهض أنه قال: (لَنَوْمَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً فِي أَهْلِكَ، تَقُومُ لَيْلَكَ لاَ تَفْتُرُ وَتَصُومُ نَهَارَكَ لاَ تَفْطِرُ)([3]) وقالض: (مَقَامُ الرَّجُلِ فِي الصَّفِّ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ الله أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ رَجُلٍ سِتِّينَ سَنَةً)([4]) وقال: (لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ الله أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)([5]) وقال: (مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَطَعِمَتْهُ النَّارُ)([6]).
خلاصة القول: أن الله تعالى هو خالق النفوس ومالكها ومع ذلك اشتراها سبحانه بثمن عظيم، وهو غني عنها غير محتاج لها ولا لجهاد المجاهدين ولا لتضحيات الشهداء لأنه الغني، ومع ذلك اشتراها بالجنة ثمناً لجهادهم وبذلهم النفوس في سبيله بخلاف المرتزقة والخونة والعملاء، الذين باعوا أنفسهم من الأمريكي والإسرائيلي والسعودي والإماراتي، مقابل ثمن بخس ريالات سعودية معدودة أو دولارات أمريكية قليلة، وبأقلَّ من أرش الإصبع الواحدة، والذي اشتراهم هو بحاجة ماسة إليهم لأنه في الميدان جبان وضعيف، فاشتراهم ليقاتلوا بالنيابة عنه ويُقتلون من أجله، وإذا تراجعوا قتلهم هو وقصفهم بطائراته لأنه يعتبرهم ملكه وعبيده فيخسرون الدنيا والآخرة.
عكس المجاهدين المؤمنين الذين يرجون الدنيا والآخرة وينالون من الله خير الجزاء، إذا كانت الحسنة بعشر أمثالها في الطاعات والعبادات، وبسبعمائة ضعف في قضية إنفاق المال في سبيل الله لأن المال محبب إلى النفس وشيء له قيمة مباشرة في الحياة لذا يبخل به كثير من الناس، فكيف أجر من بذل نفسه وروحه في سبيل الله تعالى؟
خامساً: الشهادة أمنية شخصية لأنها اختيار إلهي
يقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ ويقول سبحانه: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ ردَّ الله تعالى على زعم اليهود بأنهم أولياء الله وأن الآخرة خالصة لهم من دون الناس وليست عليهم بأن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين في زعمهم، لأن اليقين بالفوز في الآخرة وضمانها مما يدفع الإنسان إلى تمني الوصول والانتقال الفوري إليها، وهذا هو حال أولياء الله تعالى، أما غيرهم فعدم تمنيهم للموت بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال السيئة وارتكابهم للجرائم والفضائع وظلمهم وانحرافهم، دليل على كذب مزاعمهم بأنهم أولياء الله وأن الآخرة لهم .
ونحن كمسلمين فتح الله تعالى لنا بابًا لنتمنى لقاءه – كما فتحه لسائر عباده من الأولين – وهو الشهادة في سبيله، وربط الجهاد والشهادة مباشرة بالآخرة والفوز بالجنة، هو ما أكدته الآيات القرآنية الكثيرة التي تحدثت عن الجهاد في سبيل الله.
ومن ذا الذي لا يحب الفوز برضاء الله وبالجنة؟ وماذا يريد الناس غير ذلك من خلال تعبدهم لله تعالى؟ والشهادة هي اختصار للمشوار في الحياة ونيل المراد في الآخرة، وهي أمنية أولياء الله للوصول إلى مرحلة (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) من لحظة خروج أرواحهم حتى قيام الساعة، والانتقال إلى جنات النعيم بغير حساب.
ورغم عظمة الشهادة إلا أنها أمنية شخصية للشهيد المجاهد يتمناها لنفسه ولا يتمناها لغيره، وكذلك الناس في دعائهم إذ ليس من المنطقي أن يدعو الناس للمجاهدين بالشهادة إنما يدعون لهم بالنصر والتأييد والظفر ،والمجاهد هو من يطلبها من الله تعالى لنفسه ويدعو لرفاقه المجاهدين بالحفظ والصحة والنصر والسلامة، ومن أفضل الأدعية المأثورة للمجاهدين هو الدعاء لهم بالحفظ والتأييد والنصر.
ورغم عظمة الشهادة فتمنيها والسعي لنيلها وطلبها يجب أن لا يكون من باب اليأس من الدنيا، أو هروبًا من الواقع أو فرارًا من ضغوط الحياة المعيشية، ولا من باب الضعف والذلة والهزيمة والاستسلام، لأن ذلك ليس استشهادًا بل أشبه ما يكون بالانتحار.
وطلب الشهادة وتمنيها يجب أن يكون مترافقًا مع التنكيل بالأعداء، وبالصفة التي ذكرها الإمام زين العابدين في دعائه لأهل الثغور، بقوله: (فَإنْ خَتَمْتَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ وَقَضَيْتَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، فَبَعْدَ أَنْ يَجْتَاحَ عَدُوَّكَ بِالْقَتْلِ وَبَعْدَ أنْ يَجْهَدَ بِهِمُ الاسْرُ، وَبَعْدَ أن تَأمَنَ أطرَافُ المُسْلِمِينَ، وَبَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ عَدُوُّكَ مُدْبِرِينَ).
فالشهادة ليست غاية في حد ذاتها بل هي وسيلة لنيل الغاية الحقيقة رضاء الله تعالى والجنة، فلا يمنحها الله تعالى إلا لمن شاء من أوليائه، وليست أيضًا شرطًا لرضاء الله تعالى بحيث من لم يحظ بها فهو مغضوب عليه، لأنها اختيار إلهي لمجاهدين دون آخرين يقول تعالى: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ وليست في متناول الجميع بحيث يصبح بإمكانهم الحصول عليها بتدبير من عندهم، كأن يُعَرِّض المجاهد نفسه للعدو بغية أن يقتله حتى يحظى بها لأن هذا انتحار.
فالآيات القرآنية دائمًا ما تقرن المجاهدين الذين لم يحظوا بالشهادة بالشهداء في مسألة رضاء الله تعالى وبيع النفس منه، يقول سبحانه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾ وهم الشهداء، ثم يتحدث عن الذين لم يحظوا بالشهادة بقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ وشرط على المجاهدين أن لا يُبدلوا فقط، فالدنيا بعد النصر تنفتح لهم وقد يسقط الإنسان في براثنها من حيث يشعر أو لا يشعر، ولهذا يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور﴾ أيضاً يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ فذكر الله تعالى التجارة معه وبيع النفس والمال
منه مقابل الجنة، ووعد بذلك في التوراة والإنجيل والقرآن لم يشترط الشهادة للوفاء بالبيع بل اشترط عدم التبديل والانحراف والتواني عن الجهاد، لأن المجاهد حين يبيع نفسه من الله تعالى فالله عز وجل إما أن يختاره شهيدًا أو يبقيه مجاهدًا منصورًا.
وطالما الأمر ليس بيد المجاهد فالبيع نافذ – وإن لم يحظ بالشهادة – حتى يلقى الله تعالى بالموت، وقد وضح ذلك أيضاً رسول الله بقوله: (مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ)([7]).
سادساً: الشهادة استراتيجية أعجزت الأعداء
عندما يقوم العدو بتجنيد المرتزقة واستئجار جيوش كـ(الجنجويد)، ويستقدم شركات الإجرام كشركة (بلاك ووتر) و(داين جروب) الأمريكيتين، ويهول في الإعلام ويُضخم انتصارات وهمية، ويعتدي بأفتك الأسلحة الحديثة والمتطورة من طائرات الإف ستة عشر والأباتشي والبوارج والفرقاطات والقطع البحرية، وبالدبابات والمدرعات والآليات والصواريخ والقنابل الفراغية والعنقودية والفسفورية المحرمة دولياً، وغيرها مما وصلت إليه التكنولوجيا العسكرية فإنما يهدف إلى القتل، ولمعرفته أنه غير قادر على قتل كل المجاهدين لأنهم يضعون في حسبانهم ظروف المعركة فيهدف إلى التخويف بالقتل، لكسر الإرادات وتحطيم المعنويات وبث الهزيمة في صفوف المجاهدين، وخلخلة صمود المجتمع الجهادي.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية من قبل العدو في هزيمة الكثير من الجيوش الأخرى واحتلال الكثير من الشعوب، ولكن هذه الاستراتيجية سقطت وفشلت أمام من يعشقون القتل في سبيل الله بعشقهم الشهادة، فيصبح ما يهدف إليه العدو هو نفسه ما يتمناه المجاهد في سبيل الله يقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾.
وهذا ما يفسر صمود وصبر المجاهدين الأبطال تحت أمطار الصواريخ النازلة من سحب الطائرات المعادية، وأمام الزحوف الكبيرة والحشود من مرتزقة العدو المتدفقة كالسيول العارمة، فيكسرونهم بفضل الله تعالى ويثبتون أمامهم وينكلون بهم، لأنهم لا يهابون القتل وفي نفس الوقت لا يمكنون العدو من أنفسهم، فتراهم يتقنون استراتيجيات التمويه والتخفي والتواري الذي يُعرف بالدفاع السلبي في العلم العسكري، ويفاجئون العدو كالأسود فيقتحمون مواقعه ويلتحمون معه في ملاحم قَلَّ نظيرها في العالم والتاريخ، ولا يمنعهم إمكانية أن يقتلهم العدو من الثبات والصبر فلا يفرون من معركة ولا يتراجعون في ميدان إلا من باب قوله تعالى: ﴿إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾ ؟
سابعاً: الشهادة بركة في الذُرِيَّة
يعتقد البعض أن الشهادة تضييع للأهل والأولاد أو فناؤهم وهذا غير صحيح، لأن الله تعالى يحفظ المجتمع المجاهد ويحميه وينميه ويبارك فيه ولا يضيع أسر الشهداء الأبرار، والملحوظ بوضوح في الواقع وعبر التاريخ أن أبناء الشهداء وآبائهم وإخوتهم وأسرهم بشكل عام يكون فيهم ومنهم البركة في الذرية، يقول الإمام علي 2 في هذا الشأن: (بَقِيَّةُ السَّيْفِ أَبْقَى عَدَداً، وَأَكْثَرُ وَلَداً)([8]) وهذا ما تجسد فعلًا في ذريته 2 حيث نالهم من القتل الكثير عبر مراحل التاريخ المختلفة حتى أصبح القتل لهم عادة، كما قال الإمام زين العابدين بعد استشهاد أبيه وإخوته في كربلاء : (إن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة) ورغم ذلك كله نجد هذه الذرية مباركة ومتواجدة في أغلب بقاع العالم.
وكما هو ملحوظ أيضًا في ما يتعلق بإبداع الأيتام بشكل عام، وتفوقهم في الدارسة وكيف يكون لهم شأن معتبر في المجتمع حين يكبرون، وقد حفظ الله تعالى كنزاً ليتيمين لأن أبوهما كان صالحاً وسطر ذلك في القرآن الكريم بقوله: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ فكيف بأيتام الشهداء ونحن نجد الشعب الفلسطيني شاهداً حياً كيف يقاوم الاحتلال ببركة النسل، وكيف يتنامى المجتمع مع كثرة الشهداء منه.