الحربُ الناعمة
|| مقالات || توفيق عثمان الشرعبي
الحربُ الناعمة هي واحدةٌ من أخطرِ الحروبِ الاستعمارية؛ كونها تستهدفُ العقولَ وتدمِّـرُ الوعيَ والهُــوِيَّاتِ والثقافاتِ التي تشكّلت عبرَ التاريخ لدى شعبٍ أَو أُمَّـةٍ أَو مجموعات بشرية؛ لتسهُلَ السيطرةُ عليها وتدميرُ كُـلِّ الجوانبِ التي تحولُ دون تحقيق المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية..
وقد اتخذت هذه الحربُ صوراً وأشكالاً متنوعةً ومتعددة ساهم في تأثيراتها التفوقُ الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي، بحيثُ امتلك من يقودُ هذه الحربَ كُـلَّ الوسائل التي تسهل له الانتصار فيها إذَا لم يوجد في الشعوب والمجتمعات المستهدفة في هذه الحرب قوًى حيةٌ تنطلقُ في المواجهة من مبادئَ وقيمٍ راسخة ومحقة دينية وثقافية وفكرية وسياسية واقتصادية تجسدُ هُــوِيَّة هذه الشعوب ومصالحها في إطار مشروع نهضوي تطوري يعبِّرُ عن استقلالية قرارها بالمعنى الشامل دون أن يعنيَ ذلك خلقَ قطيعة مع الثقافات والحضارات والهُــوِيَّات المغايرة، انطلاقاً من فَهمٍ عميقٍ لضرورة التواصل الإنساني الإيجابي بين كُـلّ هذا التنوع البشري بعيدًا عن الإذعان والخضوع والتبعية لأية قوى..
وبالنسبة لنا في اليمن والبلاد العربية والإسلامية كان نصيبُنا هو الأكبرَ من حرب الغرب الناعمة، لا سِـيَّـما في تاريخنا المعاصر، فقد عمل على تدمير كُـلّ ما هو إيجابي وعظيم ونبيل في تاريخنا وإيماننا وثقافاتنا وهُــوِيَّاتنا؛ بهَدفِ تحويلنا إلى جماعاتٍ بشرية مسخة، ودائماً كان يصطدمُ بأصالة هُــوِيَّتنا الصلبة، والأمثلة كثيرة عن ذلك لا تتسع المساحةُ لذكرها.. فحاول بعد فشله في هذا الاتّجاه أن يوظِّفَ كُـلّ ما هو سلبيٌّ وخِلافيٌّ وصراعيٌّ في تاريخنا وتراثنا وهُــوِيَّتنا، ولعلَّ أبرزَها الصراعاتِ المذهبية والطائفية والعرقية وهي هُــوِيَّات في طبيعتها مدمّـرة إن لم ينظر إليها من منظور التنوع التاريخي والحضاري الذي أسهم في فترات كثيرة في إثراء هذه الأُمَّــة في مسارات تطورها وبُناها الحضارية التكاملية.
ويمكن القول إن الحربَ الناعمةَ قد نجح الغربُ في ماهيته الاستعمارية وإن بشكل نسبي ومتفاوت بين بلد وآخر، وعندنا في اليمن نشاهد مظاهرَ هذا النجاح بصورةٍ أكثرَ وضوحًا في العدوان الذي نتعرض له منذ ما يقارب الست سنوات، لا سِـيَّـما في الاختلاف على حقائقَ ثابتةٍ وواضحةٍ لتتمظهر في تمزيق النسيج الاجتماعي الديني والوطني وضرب الهُــوِيَّة الإيمانية بإعلاء قيم الهُــوِيَّات القزمية مثل المناطقية والقروية والعنصرية والمذهبية والجهوية وتحويل العدوّ إلى منقذ والمحتلِّ إلى محرّرٍ والمرتزِقة إلى مقاومة، والوطني إلى محتلٍّ والمدافع عن سيادة وطنه إلى انقلابي، قالبين الحقائقَ لتمشيَ على رأسها بدلاً عن قدميها.
ويبقى التركيزُ في مواجهة الحرب الناعمة على النشءِ والأجيال الجديدة والتي هي ساحة المعركة الحقيقية في مواجهة الأعداء الذين إن عجزوا في تدميرنا بالوسائل العسكرية سيحاولون وبكل الوسائل والطرق هزيمتَنا عبر مسخِ هُــوِيَّتنا الإيمانية وثقافتنا وكل المقومات التي تُوحِّدنا لنكونَ شعباً قوياً قادراً على النهوض والتطور، انطلاقاً من مساره الديني والتاريخي والحضاري..
والمهمُّ هو إيجادُ الأُسُسِ الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تجعلُنا ننطلقُ في مشروعٍ سياسي واضح، وقادرين عبرَه على الانتصار مهما كانت قوةُ أعدائنا والتحدياتُ التي يخلقونها للحيلولة دونَ بلوغِنا هذه الغاية.