الاحتفال بالمولد النبوي فَرْضُ عَيْنٍ لا فَرْضُ كِفاية

أحمد يحيى الديلمي

 

للأسف الكثير من علماء الإسلام لا يزالون سجناء قفص المباح والمحذور والبدعة وغير البدعة ، لم يمتلكوا الجُرأة الكافية لتحطيم قيود الحكام والتحرر من أغلال الماضي بآثامه وكل جذوره غير السوية التي أساءت إلى الإسلام ، هذه الحقيقة المرة دفعت جمهور العلماء إلى الانغماس في الخلاف والجدل العقيم بكل حلقاته المهينة حول الكثير من الغايات والمسميات وجعلها محوراً للتبديع والتفسيق وإثارة مشاعر العداء المتسمة بالتطرف والانحياز المطلق للأهواء والمصالح والرغبات الذاتية التي تتفق في الغالب مع سلطات الحاكم بأمره بحيث ارتدَتْ هذه الموجة مسوح الرهبنة وادعاءات التفرد بامتلاك الحقيقة واعتبارها كل الإسلام وما عداها كفر وارتداد عن الدين .

 

هذه الموجة الخبيثة تجذرت في الواقع منذ آلت الأمور إلى الدولة الأموية وتجددت في العصور الوسطى على يد الشيخ ابن تيمية ، وهي التي أدت إلى إراقة الدماء بين المسلمين وإثارة العداوات والضغائن وكل أنواع الكراهية وأدت إلى اشتعال حروب طاحنة بين المسلمين وبعضهم ، وإراقة الدماء بأيدي المسلمين مما جعل أعداءهم يحتفون بما جري ويمعنون في استهداف الإسلام وتدمير مكوناته بسيوف أبنائه ، ومن النقاط الخلافية في هذا الجانب جاءت موجة رفض الاحتفال بالمولد النبوي والادعاء بأنها بدعة وكأن محمداً صلى الله وعلى وآله وسلم مجرد موظف مع هؤلاء الذين تقمصوا الإسلام زوراً وبهتاناً لا لكي يومنوا به ويتبعوا نهجه القويم ولكن لكي يطعنوه من الداخل وبسيفه وأحياناً بدلائل القرآن الكريم والسنة النبوة المطهرة وفق حالات التأويل والتزييف للنصوص وجعلها تتفق مع أهواء الحكام ، واليوم والعولمة بفخاخها المنصوبة تُحاصر الإسلام والمسلمين من كل جانب وأقمار التجسس والشركات العابرة للقارات تكتم أنفاس المسلمين وتجثم على صدورهم ، وأمريكا تنظر إليهم بعين حمراء متأثرة بدخان أحداث سبتمبر2001م وما آلت إليه من شرعنة لاستهداف الإسلام وإخضاع القادة والكثير من علماء الدين للإرادة الأمريكية الظالمة بجبروتها المتغطرس ومساعيها الحثيثة لطمس معالم هوية الدين ، في وقت اتسعت فيه ظاهرة الأمركة في صفوف الشباب وطالت العقول والطعام والملابس ، حتى باتت الذاكرة الإيمانية مهددة بالأفول والانحسار، بينما الجهل يتفاقم في أذهان الأجيال بالنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، ويتنكرون لمعالم الرسالة النبوية المشرقة التي حملها إلى عامة الخلق بما اشتملت عليه من معانٍ إنسانية وأفق إيماني صادق جمع القلوب والعقول حول الرسول وأصحابه الميامين وجعل أصول المنهج الإلهي السامي تتوغل في النفوس بتلقائية لتحرر البشر من أشكال العبودية والرق، وتنقلهم من عبادة الأصنام إلى توحيد الخالق سبحانه وتعالى وإفراده دون غيره بالعبادة ، إلا أن الخلافات التي مزقت الأمة وفاقمت حالة التناحر بين الزعماء والقادة العرب جعلت الدور المشبوه لعلماء السلطة يذهب بالإسلام والمسلمين يميناً وشمالاً دون مراعاة لأبسط قيم الدين ، الكل يتطوع ليقدم أعظم خدمة لأعداء الأمة المتربصين بالإسلام ويمكنهم من القدح في الدين والإساءة إلى شخص الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم .

 

وهنا نُدرك أن كل الإحباطات القذرة والمعاني المخيفة توغلت في نفوس الكثيرين وأصبحت ترى في إحياء شعائر المولد النبوي الشريف وتمجيد صفات الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بدعة وضلالة ، وتؤكد على هذا المعنى بكل ما أوتيت من قوة ، بدعوى أنها تخدم الدين وتستبسل من أجل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم .

 

هذا المسعى الخبيث لا شك أنه يجعلنا اليوم نرى في هذا الاحتفال محطة هامة وفرض عين على كل مسلم ومسلمة باعتباره ضرورة من ضرورات الدين .

 

يزداد الأمر أهمية في الزمن الراهن بهدف ترجمة الغايات التالية :

 

تذكير من يروجون بأن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة وضلالة بدورهم الغبي في خدمة الأعداء والإسهام في تجهيل الأجيال بمناقب الرسول وصفاته الحميدة غير مُدركين أن هذا الاحتفال هو الأكثر دواماً والأكثر تأثيراً في النفوس وقدرة على الاستقرار يُذكر الأجيال بالمعاني في كل لحظة من لحظات حياتهم .

غرس قيم الدين وصفات الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في ذهنية الشباب بأصوله الصحيحة لتُحصنهم من الأفكار الهدامة التي يسوقها الأعداء والتأكيد على أن علاقة المسلم بالدين علاقة مركبة تحددها صفات الإيمان الصادق بالله ومعاني الحب الخالص للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فحينما يكون صادقاً يمتزج فيه الإعجاب والانبهار بالخوف من الله، أي أنه ليس حباً رومنسياً مصدحاً يتلاشى مع مضي الأيام والسنين، لكنه يتخلد في النفوس بقدسية تجسد معنى الارتباط بالدين ويتعاظم دوره مع مضي الزمن كون الفكرة خالدة قادت إلى إحداث تغيير جوهري في السلوك الإنساني والقيم السائدة فأكسبت العقل الإنساني مقومات التفوق ومواجهة تحديات كل زمن باحترامها للعقل وتمكينه من التعامل مع كل زمن وفق الأدوات السائدة فيه.

إن الاحتفال بالمولد النبوي يمثل إجابة غير مباشرة على من حاولوا النيل من منهج الإسلام وتشويه شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بدءً من الرئيس الفرنسي ماكرون وانتهاءً برسام الكاركاتير بإحدى الصحف الفرنسية الماجنة .

أخيراً -وهو الأهم- أن الاحتفال يُذكر ببطولات وتضحيات الأوائل الذين نشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ليكتشف الشباب أنها بطولات خالية من التحريف والتزييف والأوهام فتصبح مدخلاً هاماً لشحذ همم الشباب وصهر التميز والخصوصية للإسلام بإرادة الفعل لديهم كأساس لتخليد ثقافة الجهاد بأصولها الإيمانية المعززة بالقيم الإنسانية والتراث الحضاري وكل ما يتصل بالهوية الإيمانية والتأثير في التنشئة الاجتماعية للشباب ، وهذه هي المعاني التي تجعل الاحتفال فرض عين لا فرض كفاية .. والله من وراء القصد ..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى