السيادة الغذائية… قراءة في مضامين مشروع “الطحين المركب”

مركز البحوث والمعلومات / خالد الحداء

 

عًرفت اليمن منذ القدم بإرثها الحضاري والقيمي العريق الذي قدمت من خلاله للإنسانية الكثير من المعارف وكان المجال الزراعي في المقدمة، وكانت الخصوصية اليمنية تتميز عن غيرها من الحضارات بقدرة الانسان اليمني على تطويع الصعاب ومنها التغلب على شحة المياه.

 

وأمام هذا الواقع لم يكن غريبا أن يسعى الانسان اليمني منذ آلاف السنيين إلى تطوير منشأة الري للاستفادة من الأمطار المتساقطة خلال فصلي الربيع والصيف، من خلال إقامة السدود الكبيرة (سد مأرب) على مجاري الأودية، وفي الجبال كان أبداع الأجداد حاضراً عندما استطاعوا تحويل المرتفعات إلى لوحة طبيعية على شكل مدرجات زراعية، كذلك ساهمت خصوبة الأرض والمناخ المعتدل “إلى جانب المياه” في إحداث نهضة زراعية كبيرة عززت من توهجه الحضاري في تلك الحقبة التاريخية.

 

وفي إطار ما تقدم، عملت الحكومة من خلال وزارة الزراعة على وضع الخطط المناسبة والهادفة إلى استعادة شيء من امجاد الماضي من جهة وتحقيق السيادة الغذائية بالاعتماد على الموارد الطبيعية المحلية، وذلك من خلال إنتاج أكبر نسبة ممكنة تسمح بها طاقة الانتاج الزراعي في اليمن وللحيلولة دون توسع العجز الغذائي من الجهة الأخرى.

 

وتعبر مسألة العجر الغذائي: عن الفجوة الغذائية ما بين الإنتاج المحلي والإنتاج المستورد والإنتاج المصدر، وينظر لها كمعيار لقياس مدى تبعية الدولة للخارج في المجال الغذائي، ولهذا فإن الرهان الاساسي هو تنمية الموارد الغذائية، بمعنى أخر توفير الطعام الصحي والمتوازن لمجمل السكان.

 

وفي هذا السياق، كانت مساعي المؤسسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب في توسيع المساحات المزروعة بمختلف الأصناف الزراعية ولا سيما الحبوب، للوصول إلى تحقيق السيادة الغذائية وتحسين نسب الاكتفاء الذاتي وكضرورة لمواجهة التحديات المختلفة التي تواجه الجمهورية اليمنية، وبالتالي تحرير القرار السياسي اليمني من التدخلات الخارجية.

 

وخلال المرحلة الماضية أطلقت المؤسسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب المرحلة الأولى من مشروع “إدخال الطحين المركب في إنتاج الخبز” واستخدام منتجات الطحين المحلي المركب في المخابز والأفران وإلزامهم بتداول نسبة ٢٥ % من طلبيات الخبز الأسمر المركب، (على أن تكون أمانة العاصمة بمديرياتها المختلفة البداية كمرحلة أولى) وبما يسهم في تشجيع الإنتاج المحلي من الحبوب من جهة ومزيد من الاعتماد على المنتج المحلي في غذائنا اليومي من الجهة الأخرى.

 

يشار إلى أن المؤسسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب حرصت في اطار مشروعها الطموح “إدخال الطحين المركب في إنتاج الخبز” إلى اصدار الدليل الارشادي الخاص بمنتجات الطحين المركب، ليكون مرجعاً لمختلف المستخدمين في المنازل والمخابز ومعامل المعجنات والحلويات، وفي السطور التالية سوف نستعرض أبرز ما تناوله الدليل الارشادي لمنتجات الطحين المركب.

 

يوضح الدليل في المدخل، إلى أن مشروع “الطحين المركب” ذات أهمية اقتصادية تنموية كبيرة وله أكثر من فائدة وفي أكثر من مجال، حيث أنه سيعمل على تنمية الإنتاج المحلي من خلال ايجاد طرق التسويق المختلفة لمحاصيل الحبوب وتشجيع المزارعين على التوسع في زراعتها والاعتماد عليه في غذائنا بدلاً من الاعتماد على الخارج.

 

إضافة إلى أن المشروع الذي تنفذه المؤسسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب وبالشراكة مع وزارة الصناعة والتجارة والجهات ذات العلاقة، يسعى إلى التدرج من خلال إدخال نسب محددة من أنواع “الطحين المركب” من الحبوب المنتجة محلياً في الطحين المستخدم في المنازل والأفران والمخابر ومعامل الحلويات، ويسعى المشروع حسب القائمين عليه إلى:

– تحرر اليمن من التبعية الاقتصادية والسياسية للخارج.

– خفض فاتورة الاستيراد التي تنفقها اليمن لتأمين واردات الحبوب من الخارج.

ويشير الدليل في المقدمة، إلى أن الخبز من أهم الوجبات الغذائية اليومية بحيث لا تكاد تخلو مائدة المستهلك من أي نوع من المخبوزات، وبالتالي هناك زيادة مستمرة في استهلاك الخبز نتيجة تغير العادات الغذائية من ناحية، وتزايد عدد السكان بشكل مطرد من الناحية الأخرى.

وأمام واقع الزيادة الكبيرة في الاستهلاك كانت فاتورة الاستيراد في تزايد مستمر إلى أن وصلت إلى أكثر من 3.5 مليون طن سنوياً للتغلب على الفجوة الغذائية الناجمة عن انخفاض الاكتفاء الذاتي من مادة القمح ، والسبب في ذلك يعود إلى أن هناك تغير في نمط الاستهلاك الغذائي (خلال العقود الماضية) من الحبوب المحلية “كالذرة بأنواعها والدهن والشعير” إلى الاعتماد على “القمح والطحين الأبيض”، وأن نسبة كبيرة من إجمالي الدخل تنفق على شراء الأغذية، وبالتالي كان لا بد من توجيه الاهتمام بالبحث عن البدائل المناسبة، وكان “الطحين المركب” بمثابة الحل  لصناعة الخبز “غير طحين القمح” للوصول إلى تقليل الاعتماد على القمح والطحين المستورد خارجياً.

 

وفي هذا السياق، وضعت الدولة بعض المعالجات لهذه المشكلة من خلال الأخذ بالبدائل الممكنة للقمح “كتقانة الطحين المركب” لإنتاج الأنواع المختلفة من المخبوزات والتي تمتاز (حسب الدليل) بقيمتها الغذائية العالية لاحتوائها على الفيتامينات والألياف الغذائية والأملاح والمعادن التي تساعد على الهضم وخفض امتصاص الدهون وحماية القولون من الإصابة بالسرطان مقارنة بطحين القمح الأبيض المفتقر لهذه المكونات.

إضافة إلى وجود مواد فينولية ومواد مضادة للتأكسد، وكل ذلك سيؤدي إلى تحسين المستوى الصحي للمستهلك من جهة، وتقليص حجم الفجوة الغذائية وتشجيع المزارعين على إنتاج الأنواع المختلفة من الجبوب الغذائية عالية الغلة كالذرة الرفيعة والشامية والدهن من الجهة أخرى، ويمكن الحصول على مخبوزات ذات نوعية جيدة ومماثلة إلى حد كبير لخبر الطحين الأبيض، مع زيادة القيمة الغذائية لأن بروتينات القمح ناقصة في بعض مكوناتها الأساسية.

 

وبالتالي فإن خلط طحين القمح بطحين المحاصيل المحلية كالذرة بأصنافها المختلفة والدخن والشعير سوف يساعد على تحسين القيمة الغذائية للمخبوزات الناتجة عنها مما سيساعد في التغلب على مشكلة سوء التغذية في بلادنا.

وفيما يخص نسب الخلط، يشير الدليل الارشادي إلى أن ضرورة التدرج حتى يتمكن المستهلك من العودة إلى النمط الغذائي الذي كان عليه الآباء والأجداد، بالإضافة إلى توعية جميع فئات المجتمع بمضمون وأهداف وفوائد هذه التقنية وكذا تشجيع المزارعين على المزيد من الإنتاج.

يذكر أن، طحين الذرة الرفيعة بأصنافها المختلفة والذرة الشامية والشعير والدخن من أكثر أنواع المحاصيل شيوعاً في اليمن وبالتالي يمكن استخدامها في إنتاج الطحين المركب، وأن الأخذ “بتقانة الطحين المركب” سيسهم في إنتاج الخبز بأنواعه المختلفة والمعجنات مثل البسكويت والكيك مما سيؤدي إلى تقليص الاستيراد من القمح والطحين بنسب قد تصل إلى 30%.

 

وفيما يخص ماهية (تعريف) الطحين المركب فإنه “عبارة عن خليط من طحين القمح وطحين محاصيل الحبوب الأخرى، أو عبارة عن إحلال جزئي لطحين محاصيل الحبوب المحلية كالذرة والدخن والشعير وغيرها جزئياً محل طحين القمح”، وتعتبر مصر من الدول العربية السباقة في استخدام “تقانة الطحين المركب”، واستخدمت العراق هذه التقانة في العام 1990م ، كما أن المكسيك والهند وغيرها الكثير من دول العالم عملت على إدخال هذه التقنية لتلبية احتياجات سكانها ممن يعتمدون بدرجة أساسية على الخبز، وتتمحور أهمية منتجات “الطحين المركب” في الآتي:

· أهمية اقتصادية/ تقليل الاستيراد من مادتي القمح والطحين من الخارج مما سيوفر العملات الصعبة واستخدامها في مجالات تنموية أخرى في البلد.

· أهمية وطنية/ استخدام طحين المحاصيل المحلية جزئياً محل الطحين والقمح المستورد سيشجع المزارع اليمني على زيادة انتاجه من محاصيل الحبوب المحلية.

· أهمية صحية/ زيادة القيمة الغذائية للمخبوزات الناتجة عن الطحين المركب مقارنة بخبز الطحين الأبيض الذي يفتقر إلى المغذيات، بالإضافة إلى العودة بالنمط الغذائي إلى ما كان عليه الآباء والأجداد والابتعاد عن نمط الأغذية ذات الوجبات السريعة.

 

وفيما يخص الفئات المستهدفة من المشروع فإنها تشمل “العاملين في مجال تصنيع المخبوزات – أصحاب الأفران التقليدية والأفران النصف آلية والآلية والعاملين فيها – المطاعم المختلفة – ربات وأرباب البيوت – المستهلكين”، وحسب الدليل الإرشادي فإن المشروع يسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف العامة منها:-

· تطوير كفاءات (معارف ومهارات) جميع المستهدفين في هذا الدليل.

· الاستفادة من فائض المحاصيل الزراعية المحلية و تقليل الفاقد منها والتقليل من استيراد الطحين والقمح.

· ايجاد عائد اقتصادي للبلد.

· تشجيع المزارع اليمني على زيادة الإنتاج من الحبوب المحلية.

· الإسهام في تحسين الأمن الغذائي من خلال توفير المنتجات ذات القيمة الغذائية العالية.

إلى ذلك، يشرح الدليل بشيء من التفصيل القيمة الاقتصادية والغذائية لكل صنف من المخبوزات (الخبز المسطح للأفران – الخبز المسطح للمنازل – الكدم – خبز القوالب “الروتي” – اللحوح – خبز الطاوة – الكيك – البسكويت)، عندما يتم خلط طحين القمح بطحين الحبوب ” الذرة الرفيعة بأصنافها المختلفة – الشعير – الذرة الشامية – الدخن – العدس – الحمص” وتتراوح نسبة الخلط في الأغلب ما بين 90% من طحين القمح و 10% للصنف الأخر من الحبوب المنتجة محلياً، ما عدا مخبوز “الكدم” والذي تنخفض فيه نسبة طحين الدقيق إلى 40% من إجمالي الطحين الكلي.

 

ختاماً، يمثل مشروع “إدخال الطحين المركب في إنتاج الخبز” البداية العملية باتجاه تحقيق الأمن الغذائي، وعلى مختلف الجهات ذات العلاقة تعزيز التعاون فيما بينها من أجل مواجهة الاختلالات الغذائية القائمة في سبيل تحقيق الهدف الاستراتيجي من المشروع والمتمثل في تحقيق السيادة الغذائية.

 

“سبأ”
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى