درب الأحرار
د. فاطمة بخيت
اصطفاهم المولى عز وجل لقيادة الأمة إلى الحق المبين والصراط المستقيم، حيث تقتضي الحكمة الإلهية ألا تُترك الأمة دون قائد يقودها إلى ذلك الطريق في كل زمان ومكان،
فكان الاصطفاء بعد خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عترته وآل بيته الأطهار بأمر من عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم بالأجدر لحمل هذه المسؤولية العظيمة والجسيمة من أعلام دينه الذين قدموا ويقدمون التضحيات الكبيرة في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمته ونصرة دينه ومحاربة أعدائه.
ولقد أحيت الأمة الإسلامية قبل أيام الذكرى الأليمة والفاجعة العظيمة لاستشهاد سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وريحانته وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام على أيد محسوبة على الإسلام وخلافة يُقال عنها إسلامية وأشخاص يدّعون أنّهم مسلمون. وها هي اليوم تحيي ذكرى استشهاد سبط آخر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام زيد بن علي عليه السلام، ذلك الرجل العظيم الذي انطلق لإصلاح أمة جده رسول الله التي كانت تعاني من حالة متردية جداً من الزيغ والضلال حتى وصلت إلى واقع أسوأ مما كان عليه واقع الناس في الجاهلية، على الرغم من وجود كتاب الله وعترة نبيه؛ لأنّ الأمة كانت قد دُجنت للحاكم الظالم، الذي لم يدخر وسيلة إلا حاربها بها.
وعلى درب جده الحسين انطلق الإمام الأبي زيد بن علي مستشعراً للمسؤولية تجاه أمة رسول الله غير مبالٍ بالحاكم الظالم هشام بن عبد الملك الذي بلغ به الاستبداد والغطرسة أن قال بكل جرأة: “والله لا يأمرني أحدٌ بتقوى الله إلا ضربت عنقه”. حتى أصبح بتكبره وتجبره ممن قال عنهم الحق جل وعلا: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ).
وليس بغريب على من حارب دين الله أن يضيق ذرعاً إذا قيل له اتق الله، إلّا إنّ الله سخر من أعلام دينه من لا يبالي بتهديد الظالمين ووعيدهم، من يرى أنّ كل تلك تهديدات لا تساوي شيئاً مقابل إحياء دين الله والعمل في سبيله. فواجهه الإمام زيد قائلاً: “اتق الله يا هشام”. فاستشاط الطاغية غضباً لذلك حتى أمر بإخراجه من مجلسه، فخرج عليه السلام وهو يقول: “سأخرج ولن تراني والله إلا حيث تكره”. كما قال قولته المشهورة: “والله ما كره قومٌ قط حر السيوف إلا ذلوا”.
وأيّ ذلٍ أشد على الأمة من أن يُسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على لسان يهودي في دار الخلافة الإسلامية فلا يغضب الخليفة ولا الحاشية، ولكن يغضبهم رد الإمام زيد عليه السلام: “يا كافر أما والله لئن تمكنت منك لأختطفن روحك”.
لم يمنع الإمام الثائر أيّ شيء عن قول الحق والدعوة إلى الحق، فكان يدعو الناس حتى وهو خلف قضبان الطاغية هشام بن عبد الملك، حيث انطلق معلماً ومربياً، في حله وترحاله لعلمه بحاجة الأمة الماسة لمن يهديها إلى القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت حركته بالقرآن ومنهجه القرآن حتى سمي بحليف القرآن.
وكان من شدة تمسكه بالقرآن واتباع توجيهاته، أن قال وهو يواجه ظلم واستكبار بني أمية، وانتهاكهم للحرمات وظلمهم واستبدادهم: “والله ما يدعني كتاب الله أن أسكت”.
ذلك الكتاب الذي جعل الإمام زيد يحمل هم الأمة في كل وقت وحين، حتى وصل به الألم للواقع الذي تعاني منه الأمة أن قال متمنياً: “والله لوددت أن يدي ملصقة بالثريا ثم أقع إلى الأرض أو حيث أقع، فأتقطع قطعة قطعة وأن يُصلح الله بذلك أمر أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم”.
كيف لا يتألم وهو يرى ذلك الواقع المظلم الذي أدى حتى بعلماء الدين أن ينحرفوا عن الدين ويسخروه لخدمة الحكام الظالمين.
وظل ذلك القائد الشجاع في مواجهة مع الظلمة والطغاة ونصرة دين الله حتى وصل به الأمر أن استشهد سلام الله عليه بعد حياة حافلة بالدعوة إلى الله ونصرة دينه، ومقارعة أعدائه، استشهد وهو مستبشر بأن أكمل الله له دينه بالجهاد في سبيله، استشهد وهو فرح بلقاء جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجده الإمام علي والحسين وأهل بيت النبوة عليهم السلام.
وهكذا يُعيد التاريخ نفسه في مراحله المختلفة التي تعكس الصراع الأزلي بين الحق والباطل حتى عصرنا الحاضر وحتى آخر أيام الدنيا.
وما يحدث في بلدنا اليوم من قتل وتدمير وحصار وانتهاك للمحرمات وحرب للدين، ما هو إلا نموذجً مما حدث في عصر بني أمية، وكما قتلوا الإمام الحسين والإمام زيد وأئمة أهل البيت عليهم السلام. كذلك قُتل في عصرنا القائد حسين بدر الدين الحوثي سلام الله عليه، الذي تحرك لطلب الإصلاح في أمة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مقتدياً بأجداده أعلام الهدى الذين ضحوا بأرواحهم الطاهرة لنصرة هذا الدين.
وما تحريف العقائد والشرائع الدينية على أيدي علماء السوء التي نشاهدها إلا امتدادً لما أحدثه بنو أمية من تحريف للدين ووضع الأحاديث المفتراة على رسول الله، عن طريق علماء البلاط وعباد الدينار والدرهم الذين باعوا الدين بالدنيا و(اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وما هذا التطبيع مع قوى الكفر والضلال إلا نموذجً مما حدث من خيانة للدين في البلاط الأموي واتخاذ اليهود والنصارى مستشارين وجلساء، والسخرية من النبي والإسلام والتآمر على الإسلام والمسلمين.
ومهما بلغ حجم الظلم، ومهما أسرف الظلمة والطغاة في جرمهم وطغيانهم وتجبرهم، ومهما قتلوا ودمروا وشردوا، فإنّ الحق منتصر ولو بعد حين.