هلك يزيد.. وعاش الحسين!
سند الصيادي
تحل علينا هذه الأيّام ذكرى استشهاد الإمام الثائر الحسين عليه السلام، وَهي ذكرى عامةٌ وجامعة بمدلولاتها وَقيمها الدينية والإنسانية العظيمة، ليس للأُمَّـة العربية والإسلامية وحسب، بل مثّلت إلهاماً وقُدوةً وَأنموذجاً لطبيعة الصراع الإنساني وأطرافه لدى كُـلّ شعوب المعمورة باختلاف الوانها وأعراقها ومعتقداتها.
فقد سقط جسدُ الحسين شهيداً مسجى على رمال التنكر الموحش للفضيلة، في زمن غلب فيه حضورُ النزعات السلطوية الجائرة وَالمسيَّرة بأمر الشيطان والتي ترزح ولا تزال تحت جَورها شعوب الأرض، فيما علت روحُه المليء بقيم هذه الفضيلة إلى رب الفضائل كلها، مدشّـنةً حقبةً جديدةً من الضياع الإنساني الذي أوصل البشرية إلى ما وصلت إليه من التناحر وَالقتل وَاستفحال الظلم وَسطوة الظالمين.
لقد كانت ثورة الحسين منهاجاً عالمياً بأهدافها ومتطلباتها، غير أن الشغل الدؤوب والحثيث الذي مضى فيه العدوّ الأزلي للدين والإنسانية؛ بغرض كبح التأثر الإنساني بهذه الشخصية القدوة، قد تمكّن عبر المراحل التي سبقت هذه الثورة والقرون التي تلتها من تجريف الأبعاد والحيثيات التي قامت عليها ثورته، وَسعى إلى حصرها بظرف زمني وَجرِّها إلى تفاصيل مظللة نحو إلغاء بُعدها الإنساني العالمي، وأبعد من ذلك بأن تمادى هذا العدوّ إلى العمل على تقويض بُعدِها الإسلامي الشامل، وَصنع باسم الإسلام رواياتٍ وَشخوصاً وَجماعات وَمذاهبَ دفنت هذا الحدث العظيم من ذاكرة الأجيال وَأهملت تفاصيلَه الحقيقية وَغيّبته من مناهجها التعليمية وَمكتباتها وأبحاثها؛ ليملأ حيزَها الشاغرَ بكتب الروايات التاريخية الهامشية والمختلقة فيها الرمزيات والأحداث.
لم يكن الحسين رمزاً مذهبياً، إلا أن تكلمنا على مصطلح المذهب؛ باعتبَاره توصيفاً لاتّجاه الناس حقاً أَو باطلاً.. كما لم يكون الحسين رمزاً دينياً، إلا أن تكلمنا على الدين كمفهومٍ جامعٍ وشاملٍ تندرج تحته كُـلُّ قيم الإنسانية من عدالة ومساواة وَتعايش وَحرية وكرامة وَرقي وَإعلاء لمكانة الإنسان في كُـلّ حقوقه وواجباته.
وعلى هذه الأجندة، نهض الحسينُ مستعيناً بالله وَإيمانه العميق بقُدسية المشروع الثوري الذي يتحَرّك لنُصرته، في زمن كَثُرَ فيه الفسادُ وَتعالى فيه الطغيان والعبث وَالاستئثار بأموال وحياة الناس والغياب التام للحاكم العادل وَدولة الحكم الرشيد، وبدأ الحسينُ كفاحَه المقدس لمقارعة الطغاة وَالمجرمين نيابةً عن كُـلّ مستضعفي الأرض، وكان لسنن الله حكمة وَدروس فيما آلت إليه هذه الثورةُ من نتائجَ في بُعدها المرحلي وأصدائها التي ظلت تتردّد ومشاهدها المستنسخة التي ظلت تتكرّر عبر الأجيال.
والمتأملُ بفطرة سليمة يصلُ إلى أن الحسين ليس قائداً عادياً حمَلَ كاريزما وصفاتٍ معروفة لدى كُـلّ قادة التاريخ وحسب، كما أن ثورته لم تكن مشروعاً مرحلياً اندثرا معاً باندثار الأمم، وباتا مُجَـرّد ملحمة في أرشيف التاريخ كما هو حال بقية الملاحم والحروب التي شهدتها الأرض، وَإلا لماذا لا نزال نستحضرُ وَنحتفي بهذه الثورة بعد ما يقارب ألفٍ وأربعمِئة عام من قيامها، وَكيف ظل الحسين -الذي اعتقد يزيد وَقاتلوه أنهم سيمحون ذِكرَه بكسر ثورته وحزَّ رأسَه وَقتل أقاربه واستضعاف أتباعه- حياً في ذاكرة وَضمير وَوعي الأجيال والقرون، كما لا يزال مَن تبعوه على ذات الدرب من أعلام الهُدى أحياء فينا رغم الموت، فيما غاب حضورُ وَهيلمان المنتشين بقتلهم المحتفين بانتصاراتهم وبات كُـلُّ لاحق منهم يهجو سابقيه.
والحاصلُ أن هذا المسارَ الذي انتهجه الحسينُ وحمل لواءَه هو المسار الحق المتقادم والمتجدد الذي يجابه مسار الباطل منذ أن فطر الله الأرض، وَهو قطعاً مفعم بالتأييد الإلهي رغم قلة جمهوره، وتكالب الزمن عليه، وَعلينا أن نعيَ ذلك، وَنسقط واقعنا بما فيه مشاريع وَمؤامرات على هذه المعادلة الأزلية، لنعرف تماماً في أي معسكرٍ نتمترس، وَخلف أي نهج نحتمي.