فلسفة ثورة الحسين
أحمد يحيى الديلمي
لا توجد ثورة في التاريخ الإنساني ارتقت إلى مراتب الخلود وتجذرت في ذاكرة البشر بأبعادها الحضارية وآفاق التغيير التي جسدتها كما هو حال ثورة الإمام الحسين بن علي عليه السلام ، فلقد حازت اهتمام الكثير من الفلاسفة والزعماء والمفكرين الذين استفادوا من معانيها وتحولت إلى نهج للثوار في كل الأزمنة والعصور ، لأنها دلت على السمو في الحياة وجسدت الحرية بكل معانيها كونها ترجمت منهج الخالق سبحانه وتعالى وإرادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الرافضة لكل أشكال الاستغلال والابتزاز والظلم ، وابتكار المفاهيم التي تُعكر صفو الحياة ، فهذه الثورة التي تحولت إلى منهج ومثلت فلسفة خاصة لإدارة الحياة تشكلت فيها معاني الهوية والذاكرة والمكان وسمو الغاية ، وأصبحت معين لاستنباط معاني الكرامة والحرية والجهاد ضد الظلم أو الخلاص من الغزاة والمحتلين كما جاء على لسان الزعيم الهندي غاندي حيث قال (تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر)، وختم مردداً المقولة التي صدحت بها حنجرة الحسين وبلغ صداها عنان السماء وهو يقول ( لن أعطيكم إعطاء الذليل ولن أفر فرار العبيد )..
هذه المقولة العظيمة للأسف الشديد يتجاهلها المسلمون رغم أنها أوضحت بجلاء الصراع الأزلي في هذا الكون المتمثل في أمرين: إما أن يكون الإنسان حراً ممتلكاً للكرامة والإرادة والعزة أو عبداً تابعاً ذليلاً خانعاً ، وكان المفترض أن تتحول هذه المقولة إلى ثقافة ومنهج للمسلمين يقومون بشرح معانيها وتحويلها إلى مادة لإحياء المناسبة في كل عام لتعريف الأجيال بفداحة المأساة ، لكنهم للأسف تحولوا إلى مهرجانات التطبير والنواح وذرف الدموع ، والفريق الثاني ينغمس في حلقات الزيف والبهتان التي تخوض في عرض الحسين وتقول بأنه أخطأ بالخروج على إمام زمانه ، وأنه ألقى بنفسه وأهل بيته إلى التهلكة وشق عصا الأمة ، وكلها مقولات ساذجة دلت على قُبح المؤامرة واكتمال أركان الجريمة ، وفضحت الخطة التي وُضِعَتْ بإحكام وراعت أبسط التفاصيل ، إذ اهتمت بأن يظل فريق تزييف الحقائق يتناسل في جنبات الزمان إلى نهاية التاريخ بقصد استغفال البسطاء وترويج الإشاعات وعبارات الزيف والضلال التي تتحول إلى مقولات مرعية وتُصبح ثقافة متوارثة للحاقدين من أتباع النهج الأموي عشاق الجحود وأزلام أنظمة الجور .
في الحقيقة لا يوجد خلاف بين المسلمين في كافة مذاهبهم حول التنزيل والآيات القرآنية ، إنما الخلاف يتمحور في تأويل النصوص وتسخيرها لخدمة حكام الجور والظلم والبهتان، الذين حملوا راية النهج الأموي ولا يزالون يشككون في هذه الثورة العظيمة ، كما يعمل أتباع النهج الوهابي الذين يبثون السموم ويستفيدون من طريقة الطرف الآخر في إحياء الذكرى الأليمة للقدح في الحسين عبر تأويل النصوص والأفكار كلاً على هواه ، وإن تعلق الأمر بقدسية ومهابة ومكانة الإمام الحسين بن علي عليه السلام ، الكل يتجاهل تماماً أن الرجل وكما قال ( لم يخرج أشراً ولا بطراً ) وإنما سعى إلى إصلاح أمة جده، بحسب المقولة التي أطلقها ولا زالت تتردد في أسماع البشر حتى اليوم.
هذه المعاني للأسف نجدها اليوم غير موجودة إلا لدى من رحم الله ، فرغم فداحة مأساة كربلاء وما تعرض له الحسين وأهل بيته وأصحابه من قتل وتمثيل بالجثث إلا أنها تحولت إلى نصر عظيم ، بتعبير أدق مثلت الاكتمال الإنساني الذي يترجم رؤية انتصار الدم على السيف ، أمام هذه العظمة وأمام هذا الخلود والسمو هل آن لنا أن نستوعب ما أراده الحسين ؟! وأن نتمثل دوره في سلوكنا وحياتنا اليومية وفي مساعينا للإصلاح ، وترجمة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل معانيها ، بحيث تصبح نموذجاً للسمو والسير في الحياة بأفق واضح يحفظ الكرامة ويقدس الحرية ويرفض الظلم والطغيان والجبروت ، ولو استوعبنا هذه المعاني لاستطاع كل منا أن يُبدع في المكان الذي يحتله ، بحيث يكون القاضي نموذجاً للعدل وترجمة معاني الإنصاف بكل قيمها التي حث عليها ديننا الإسلامي الحنيف، ويكون قائد الأمة مجسداً لسمو وعظمة المنهج الإسلامي القويم الذي أكد عليه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يخاطب بن عباس ( والله إنها عندي أرخص من هذا النعل ، إلا أن أقيم حقاً أو أخذل باطلاً )، وهذا هو الأساس الذي انطلق منه الحسين بن علي عليه السلام ويجب أن يتحول إلى سلوك يومي عند المسلمين إذا كانوا مسلمين فعلاً ، أما أن يتحول الإسلام إلى طقوس وعبادات مرعية أو مسيرات عويل وبكاء ، فهذا شيء غير مستحب وغير مستحسن ، ولو كان الحسين موجوداً لتعاقبت ثوراته حتى يُعيد الأمة إلى مسار الإسلام الصحيح الذي دل عليه نبي الهداية محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فسلام على الحسين وأتباع الحسين وأهل بيت الحسين ، وسلام على كل رائد يفهم معاني الثورة ويجسدها قولاً وعملاً في الواقع .. وإن شاء الله ستظل هذه ا لثورة النبراس الذي يُضيء الطريق لكل إنسان يتطلع إلى الحرية والأمن والسلام .. والله من وراء القصد ..