ولايتان لا ثالث لهما
سند الصيادي
بعد أَيَّـام قليلة من قدوم ذكرى ولاية الإمام علي -عليه السلام- التي احتفى بها اليمنيون في تجمعات حاشدة، رغم استمرار العدوان والحصار وتثاقل المعاناة الشعبيّة اقتصاديًّا على ذمة هذا التوجّـه، وتحت وطأة هجوم إعلامي ممنهج ضد إحياء هذه الذكرى وَتوصيفها بشتى أشكال الإساءة والتحريض من قبل منابر الدجل الإعلامي وَالوهَّـابي، يأتي الإعلان الرسمي عن تطبيع دولة الإمارات مع الكيان الصهيوني في ظل ردود فعل عربية مخيبة للآمال، وباستثناء موقف أحرار الأُمَّــة من أنظمة وقوى سياسية وفصائل مقاومة عربية وإسلامية، فقد تنوعت ردود الفعل بين الترحيب والمباركة لهذا الاتّفاق المشؤوم، وبين تفضيل الصمت خشيةً من ارتدادات إعلان أي موقف تجاه هذه الخيانة التاريخية للقضية الفلسطينية.
مشهدان متقاربان، وجب على كُـلِّ ذي لُبِّ أن يقرأ أبعادهما بعمق، وَكأن الله بهذه المقاربة أراد أن يسهل مهمة وعينا الجمعي كأمة والذي تتجاذبه التحليلات والإشاعات، وَيرشدنا بوضوح أكبر إلى ملامح الصراع وَأطرافه وَتوجّـهات كُـلّ معسكر فيه، وفق ما يفرزه الواقع وَتشير إليه دلائل الوعود الإلهية.
ما الذي يدفع دويلة طارئة مثل الإمارات بعد عدة عقود من نشأتها إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، بينما هي بمفهوم الجغرافيا ليست دولة مجاورة لهذا الكيان ولا تتشارك معه حدوداً، ولم تخض معه يوماً حرباً حتى تسمي ما قامت به من خيانة اتّفاقاً، ومتى كان هناك خلاف أصلاً بين نظامها وهذا الكيان، أَو دور داعم لها للجبهة العربية في مختلف مراحل الصراع العربي الصهيوني، وَما هي المكاسب الاستراتيجية التي تأمل أبو ظبي جنيها من إعلان هذا التطبيع والمجاهرة به؟!
ولماذا الآن تحديداً، على الرغم من أن مؤشراته ودلائله قد سبقت هذا الإعلان بعقود؟!
أسئلة عديدة قد تقفز إلى أذهان المتابعين، خُصُوصاً أُولئك الذين لا ينظرون بعين القرآن النافذة البصيرة وَيتعاملون مع الوقائع بمعايير مجتزئة على قاعدة لكل حدث حديث.
والحاصل أن ما حدث ليس إلَّا تدشيناً لمرحلة جديدة من زمن كشف الحقائق، وهي مرحلة يمكن التنبؤ المسبق لمشاهدها التالية بناءً على الفهم الصحيح لأولياتها وَأبعادها، فالخيانة ليست وليدة اليوم، كما أن هذه التمترسات والاصطفافات في وجه المشاريع العربية والإسلامية ذات البعد الديني والوطني والإنساني وَالرامية في مجملها إلى القوة والعزة والسيادة قد بدأت في تاريخنا المعاصر، تحديداً من ظروف نشأة هذه الأنظمة في المنطقة وتمكينها من قبل المنظومة الصهيونية العالمية الحاكمة وَتهيئتها لتمثل صمام أمان لإسرائيل وَمخطّطاتها، ولتكون أدوات مواجهة مباشرة لضرب مفاصل أي مشروع مناوئ لهذا الكيان، ويقوم على مبادئ الدين الخالص وَفطرة الله السليمة التي أرادها اللهُ لعباده.
ومع تنامي المشروع المقاوم لهذا الهيمنة في اليمن تحديداً بعد ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر المباركة، وَتصاعد قوة وشعبيّة وَحضور فصائل وحركات المقاومة العربية والإسلامية في المنطقة، انتقلت مخطّطاتُ الصهيونية العالمية إلى مربع جديد، مستشعرة خطورة هذا التنامي الذي قد يعصف بوجودها ومصالحها في المنطقة، مقدمة أدواتها إلى معمعة الصراع لتخوضه بالنيابة عنها كما هو معروف عنها تاريخيًّا، كاشفة عنها غطاء العروبة والدين، وتحت شعارات باهتة لم تنطلِ إلَّا على الذين طبع اللهُ على قلوبهم، وَأُولئك لن يحدث لديهم أي فرق بين ما قبل هذه المجاهرة العلنية بالولاء للكيان الصهيوني وَما بعدها من تحولات.
وطبقًا لسنن الله وَتفاصيل المشهد المعاش، لا تزال الأيّام وَالأشهر القليلة القادمة حبلى بمواقف التطبيع والولاء العلنية لكل أدوات المشروع الصهيوني في المنطقة وفي مقدمتها نظام آل سعود، كالتزام تاريخي قطعته تلك الأدوات لمن مكنها على شعوب ومقدرات هذه الأُمَّــة، وصنع منها أرقاماً على بياض، ليحكم بها قبضته وَيمسح بها سوأته وَيتلحف بها خوفه وخشيته من تقديم نفسه مباشرة في المواجهة.
وعودٌ إلى بدء، وفي أتون هذا الصراع وَبعد أن انقشعت السحبُ السوداء التي كانت تظلل الوعي وتعتم الرؤية عن الدين الخالص وَكذلك العروبة الحقة، ثمة حق وَباطل وَمعسكرات لهما تتجلّى بوضوح من خلال ولايتين في واقعنا العربي وَالإسلامي لا ثالث لهما، ولاية احتفلت بها صنعاء وكل أحرار الأُمَّــة العربية والإسلامية في أقطار الأرض يوم الثامن من أغسطُس الجاري، وَولاية احتفت بها أمريكا وإسرائيل وأدواتهما في المنطقة والعالم يوم الثاني عشر من ذات الشهر، سراط مستقيم لا يهتدي أحد إليه إلَّا من نجا وأفلح، وآخر معوج لا يسلكه إلَّا من شقي وَخاب.