ولايةُ الله
د. فاطمة بخيت
بعدَ ثلاثة وعشرين عاماً من الدعوة إلى الله ونشر الإسلام في شتَّى بقاع الأرض، في الفترة التي يودعُ فيها الحبيبُ المصطفى صلى اللهُ عليه وآله وسلم هذه الحياة: (لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا).
لم يكن رَبُّ العزة والجلال الذي وضع للإنسان منهجاً مستقيماً في هذه الحياة ليسلكَه بما يحقّق له الفوزَ والنجاة، ووضح له أدقَّ السبل التي ينتهجُها أن يتركَه بعد رحيل نبيه دون أن يرسُمَ له طريقاً يسير عليه، حتى لا يتيهَ في مفترق الطرق، وهذا ما تقتضيه الحكمةُ الإلهية للمولى عز وجل الذي تكفل بهداية عبادة (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى)؛ لذا نزل الأمرُ الإلهي لنبيه وهو عائدٌ من حجّـة الوداع التي ودع فيها هذا العالم: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)، فما كان من لا (يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) إلا أن عقد أكبرَ اجتماع للمسلمين آنذاك يتألّف من أكثر من مِئة ألف مسلم، في مكان يدعى غدير خم، فنادى في الجموع العائدة من الحج في ظهيرة اليوم الثامن عشر من ذي الحجّـة للعام العاشر من الهجرة بعودة من تقدم وانتظار من تأخر، ورُصَّت له أقتابُ الإبل ليصعَدَ عليها عالياً؛ ليراه الجموعُ ويسمعوا كلامه، فخطب خطبتَه الشهيرة التي كانت معلماً بارزاً من معالم يوم من أَيَّـام الله التي اصطفى فيها الله وصياً وولياً من أوليائه لإمامة الأُمَّــة بعد رحيل نبيه. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أيّها الناس إنّي أوشك أن أُدعى فأجيب، وإنّي تاركٌ فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً: كتابَ الله، وعترتي أهلَ بيتي، إنّ اللطيفَ الخبيرَ نبَّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)، ثم قال: (يا أيّها الناس إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم، ورفع صلى الله عليه وآله وسلم يد الإمام علي عليه السلام وقال: فمن كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصُرْ من نصره، واخذل من خذله). وهذا الحديثُ متفَقٌ على صحته في أغلب كتب الحديث للسنة والشيعة.
وفي (هذا)، إشارة واضحة أنّ الإمام علياً هو الأكفأُ والأجدرُ لقيادة الأُمَّــة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أتت مفرداتُ الخطبة منسجمةً مع ما ورد في الآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ). ولخطورة الوضع وضرورة التبيين للأُمَّـة عما تمثله تلك الولاية من دور كبير في حياتها والنهج الذي يجب أن تسلكه لولاية أمرها ذكر تعالى: (وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)، ليعلم الجميعُ أهميّةَ هذا الأمر، وأهميّة التولي لمن أمرنا الله بتوليهم. وختم الآيةُ بقوله عز وجل: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)، لعلم الحق جل وعلا بما سيحدُثُ من تنكر ورفض لهذا الأمر الإلهي لاحقاً، لكنه تعالى عصم نبيه من كُـلّ ذلك، وحفظ ما جرى في ذلك اليوم في قلوب المسلمين المخلصين ووجدانهم.
ولم يكن هذا الحدث وتلك الخطبة إلا تتويجاً لما سبقها من أحاديث وردت في فضل ذلك الرجل العظيم الذي أحب الله ورسوله، وأحبه الله ورسوله.
بعد ذلك نزل في نفس اليوم قول الحق عز وجل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسلام دِينًا). فكان يوم إكمال الدين وتمام النعمة، باصطفاء ولي هذه الأُمَّــة. ومن غير الإمام علي يمكنه أن يلي أمرها لما يحمله من مؤهلات جعلته ينال تلك المنزلة الرفيعة بإيمانه وتقواه وجهاده وإحسانه وغير ذلك مما تشهد له بها صفاته ومواقفه؟
فما الذي حدث للأُمَّـة عندما أعرضت عن ولاية أولياء الله سوى التيه والضلال الذي جعل يتنامى حتى وصل إلى التولي لأعداء الله من اليهود والنصارى ومن تحالف معهم، ومحاربة الإسلام والمسلمين بشتى الوسائل والطرق، واستباحة المحرمات والصد عن سبيل الله والمسجد الحرام (وَمَا كَانُوا أولياءهُ، إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أكثرهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
فلا يوجدُ بديلٌ لولاية الله وأوليائه سوى ولاية الشيطان وحزبه، مع أنّ العليمَ الخبيرَ حذّر المؤمنين في كتابه العزيز في سورة المائدة آية (51) من توليهم في خطاب صريح: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أولياء بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). وفي نفس السورة، في نفس الصفحة حصر ولايته في من؟ (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ).
ألم تُجمِعِ الأُمَّــة على أنّ هذه الآية نزلت في الإمام علي عليه السلام عندما تصدق بخاتمه وهو راكع؟! فلماذا التعامي عن سبيل الله؟! وماذا كانت نتيجة ذلك الإعراض عن تولي أولياء الله سوى الضلال والضياع وتولي أعداء الله؟!
كما ذكر المولى عز وجل بعد تلك الآية: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ). وقد رأينا واقعنا يؤيّد ذلك، ورأينا من يتولى الله ورسوله والإمام علياً يحقّقون الانتصارات تلو الانتصارات على أعدائهم في مختلف بلدان محور المقاومة، ومنها بلدنا الذي يعاني من الحرب والحصار طيلة ستة أعوام، والانتصارات التي حقّقها على أعتى امبراطوريات العالم ومرتزِقتهم، مع عدم تكافؤ العتاد والعدة، فكان ذلك مصداقاً لقول رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسلم: (وانصُرْ من نصره).
كذلك رأينا كيف كانت عاقبةُ مَن أعرضوا عن ولاية الله ورسوله والإمام علي سوى الهزائم والذل والخزي والهوان، ليعكسَ لنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (واخذُلْ من خذله). مما يدُلُّ دلالةً واضحةً على أهميّة ذلك الحدث في حياة الأُمَّــة، وأهميّة التولي لأولياء الله، ومعاداة أعدائه. ولخطورة الإعراض عن تولي أولياء الله فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (لو أنّ عبداً صام نهارَه وقام ليله وأنفق ماله عِلقاً عِلقاً في سبيل الله، وعبد الله بين الركن والمقام حتى يكون آخر ذلك أن يذبح بين الركن والمقام مظلوماً لما رفع إلى الله من عمله مثقال ذرة، حتى يظهر الموالاة لأولياء الله والمعاداة لأعداء الله).
فعلى الرغم من عظمةِ الأعمالِ التي وردت في الحديث إلا أنّها لا تقبلُ عندَ الله إلا بموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه؛ لأنَّ دينَ الله مترابط وسلسلة متصلة بعضها ببعض. فكم من صائم قائم متصدق أَدَّى به إعراضه عن تولي أولياء الله لأن يواليَ أعداء الله، والواقع خير شاهد؛ لأنّ أولياء الله هم قادة الأُمَّــة إلى بر الأمان. فمن المسلّم به أنّ من لم يركب السفينة وهو يخوض البحر فمصيره الحتمي هو الغرق؛ كما أنّ مصير من ركبها هو النجاة. وكما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى).
واحتفالُ هذا الشعب العظيم بيوم الولاية نابعٌ من هُويته اليمانية الإيمانية، فمنذُ فجر الدعوة الأول كانت له مواقفه المشرّفة في نصرة هذا الدين وإعلاء رايته مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعد ذلك مع الإمام علي عليه السلام، ثم تباعاً مع أعلام الهُدى عليهم السلام حتى يومنا هذا.
هذه الولايةُ التي هي ولايةُ لله ورسوله والإمام علي وولاية أعلام الهدى الذين أمرنا الله بتوليهم، والذين ستظلُّ ولايتُهم حلقةً ممتدةً حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها.