حزن لن ينسى وجرح لن يندمل
عبدالفتاح علي البنوس
في ذكرى أربعينية الطهر والنقاء ، والقيم والمبادئ ، والوسطية والاعتدال ، والنبل والأخلاق ، والصفاء ، والوفاء التي كانت تتمثل في فقيد الوطن الكبير الدكتور أحمد صالح النهمي أقف عاجزا عن ترجمة مشاعر الحزن والأسى في هذا المصاب الجلل ، والفاجعة الكبرى التي ما أزال تحت تأثيرها حتى اليوم ، لم أستوعب ما حصل رغم أن الموت هو الحق الذي لا مفر منه ، كانت أطرافي ترتعش من الخوف والقلق وأنا أتصل بالدكتور العزيز أحمد ناصر العريق الذي كان متواجدا في المستشفى لحظة محاولة إسعاف الفقيد للاطمئنان على حالته ، بعد أن أبلغني خاله الدكتور زايد حسين بأن حالة الدكتور زادت سوءا وتم نقله إلى المستشفى في حالة حرجة ، فكانت الفاجعة التي نقلها إليَّ الدكتور أحمد العريق بأن الدكتور أحمد النهمي فارق الحياة ، والتحق بالرفيق الأعلى..
تسمَّرت في مكاني مصدوما ، لم أتمالك نفسي ، ولم أستطع حبس دموعي وكفكفتها عن البكاء والنحيب ، اتجهت مباشرة إلى المستشفى ، حاولنا الدخول لرؤيته، لكن مسؤولي مركز العزل الصحي رفضوا ذلك ، كنت أرمي ببصري صوب نوافذ المركز لعلي ألمحه ، بعد أن كنت أحلم بأنه قد يكون في غيبوبة ومن المحتمل أن يصحو منها ويخرج إلينا مطلا بطلته البهية ، ووجهه البشوش ، وضحكته التي كانت بلسما لكل جروحي ومكدرات صفو حياتي ، كنت أشعر بأنها تلامس ما علق في القلب والنفس والجسد من معاناة وهم وضيق وأوجاع ، كان يسميني ( بيت المصايب ) لكثرة المقالب التي صنعتها له ، والمواقف المحرجة التي وضعته فيها تحت يافطة ( التندر)..
من صحيفة جهران ، إلى الجامعة ، والتدريس في مدرسة الزبيري، إلى التدريس في جامعة ذمار كمعيد ، والعمل في صحيفة الشورى ، وصوتها بعد استنساخ الشورى من قبل السلطة ، وحضوره السياسي المبكر في اتحاد القوى الشعبية، إلى تحضير الماجستير والتدريس في جامعة البيضاء ، ودوره الرائد في تأسيس منتدى جهران الثقافي، ومن ثم السفر إلى السعودية لتحضير الدكتوراه ، وما أعقب عودته من محطات حزبية وسياسية وأكاديمية ووطنية واجتماعية وثقافية أوصلته إلى ترؤس الأمانة العامة للحزب علاوة على منصبه الأكاديمي ومنصبه التشريعي عضوا في مجلس الشورى.. لقد ظل الفقيد النهمي محتفظا ببريق معدنه النفيس ، المعدن الأصيل الذي لم يتغير أو يتبدل ، في ظاهرة يتفرد بها القلة القليلة من أبناء هذا العصر..
نرثيه اليوم وتبكيه قلوبنا قبل الأعين ، تبكيه قلوبنا دما ، وأعيننا دمعا يأبى التوقف ، نبكي موسوعة العلم والمعرفة والثقافة والأدب والسياسية ، نبكيه أكاديميا عصاميا شق طريقه من الصفر بعزيمة أمضى وإرادة لم تلن يوما ، نبكيه سياسيا فذا فرض نفسه على الوسط السياسي حتى غدا في صدارة الصف الأول للمشهد السياسي اليمني ، نبكيه شاعرا وأديبا وناقدا ، نظم حروف الشعر وأبيات القصيد بنفس بردوني في غاية الجمال والروعة والإبداع ، وصاغ في الأدب والنقد العديد من الكتابات والدراسات والتحليلات المنهجية التي تميز بها ، نبكيه قلما وكاتبا صحفيا لامعا ، ظل محترما لقلمه الذي لم ينجر نحو مربع التطبيل والتبجيل والمدح والتزلف والنفاق والمداهنة للسلطات الحاكمة ، فكان قلمه مسخَّرا لخدمة الوطن ، ومنحازا لصف الشعب..
وكانت مقالاته مشبَّعة بالجرأة والشفافية والمصداقية والنقد البنَّاء.. نبكيه مصلحا اجتماعيا سخَّر الكثير من وقته لحل الخلافات التي كانت تنشب بين أبناء قريته ومديريته.. نبكيه خطيبا مصقعا ، وثائرا بطلا ، وشخصية استثنائية يضرب بها المثل في النزاهة والاستقامة ، استطاع أن يحظى باحترام وتقدير وإجماع مختلف القوى والمكونات والتيارات ، وهذا ما لمسناه جميعا من خلال تعاطيهم مع فاجعة رحيله عن عالمنا ، والمشاعر الجياشة النابعة من القلب، العفوية الخالية من التنطع والتملق والنفاق والمجاملة والتزلف..
بالمختصر المفيد: لقد شكَّل رحيل الدكتور أحمد النهمي المفاجئ في هذه المرحلة وفي هذا التوقيت، وهو في ذروة ألقه المتوهج بذلا وعطاء وإبداعا خسارة كبيرة على الجميع ، خسرته أسرته وقريته ومديريته ومحافظته ووطنه وحزبه وجامعته ورفاقه وطلابه وطالباته ، خسارة من الصعب تعويضها ، أو ملء الفراغ الذي تركه في الأوساط الأكاديمية والسياسية والحزبية والثقافية والأدبية والاجتماعية ، ولكنها مشيئة الله التي لا اعتراض عليها التي اقتضت أن يغادرنا ويتركنا نتصارع مع الحزن والأسى ، ونحتسي الوجع يوميا ، وعزاؤنا اليوم في الثروة الكبيرة التي تركها خلفه ، الثروة التي لا تقدر بثمن ، وهم أولاده دكاترة المستقبل إبراهيم وعلي وخولة والغاليتان آيات وفاطمة الذين يمثلون رهانه في مواصلة مسيرة النجاح والألق والتميز العلمي والمعرفي التي سلكها ، والتي كان يمني نفسه بأن يسيروا على ضوئها ويسلكوا مسلكها ، وكلي ثقة بأن رهان فقيدنا سيكون رهانا رابحا ، وستكون ثمرته مميزة..
لروحك الطاهرة أيها الفقيد الحبيب الخلود في أعلى عليين ، طيَّب الله ثراك ، أحسن
الله مثواك ، جعل الجنة سكناك ، إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا أبا إبراهيم لمحزونون..
وإلى أن نلتقي ؛ نم قرير العين أيها المتوج بتاج النبل والطهر والنقاء.
هذا وعاشق النبي يصلي عليه وآله.