المشروع القرآني، والخروج من التيه “1”
*الظروف والأوضاع التي أحاطت ولادة المشروع القرآني*
د. خالد محمد الشامي
منذ تم لأمريكا تقويض الكيان الكبير للاتحاد السوفيتي ؛ كان الاتجاه نحو العالم الإسلامي عموماً ، ونحو المنطقة العربية والإسلامية ، خصوصاً ، ليس لكونها ندّ منافس ، وقوي في وضعها القائم آنذاك – كما كان حال الاتحاد السوفيتي – بل هو بدافع العداء الذي تحمله للإسلام ، ولأبناء هذه الأمة ، إضافة إلى أطماعها في المنطقة ، كما يُبيَّن السيد القائد عبد الملك (اتجاههم نحو العالم الإسلامي والمنطقة العربية هو اتجاه عدائي بكل ما تعنيه الكلمة ، وفي نفس الوقت له أطماع ، هو مشوب بأطماع كبيرة جداً )[الصرخة 1437ه]
وبخطوات منظمة ، ومدروسة ؛ توجهت المشاريع الأمريكية الإسرائيلية للسيطرة الشاملة على المنطقة ، وعلى شعوبها ( وكان تحركهم على مراحل متعددة ، ووفق خطوات مدروسة ، ومنظمة ، وكانت المرحلة التي هي من أخطر المراحل في حلقات مسلسل مؤامراتهم ، هي ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر) [الصرخة 1437ه]
يقول (هذه المرحلة كانت فعلاً مرحلة خطيرة جداً ، توجَّهت فيها أمريكا بكل ثقلها ، بكل قدراتها ، بكل إمكاناتها ، على نحوٍ غير مسبوق ، وأتت إلى المنطقة ، وتحت هذا الغطاء ، تحركت في كلّ الاتجاهات ، عسكرياً للاحتلال المباشر ، وبدات خطواتها باستهداف أفغانستان ، وفيما بعد العراق، وهكذا تحركت بشكل مستمر ، وأمنياً ، وسياسياً ، وثقافياً ، وفكرياً ، وإعلامياً ، واقتصادياً ، وفي كل المجالات ، وفق خطط أُعدت سلفاً ، مدروسة بعناية ، وتُنفذ بشكلٍ دقيق.) [الصرخة 1437ه]
وبفعل الواقع الداخلي البئيس ، والسيء للأمة في ذلك الحين ، أصيب الجميع بالإرباك ، والاضطراب ، تجاه هذه الخطوة غير المسبوقة ، وكان هذا هو الغالب ، والسائد في الواقع العام ” الاضطراب ، الحيرة ، الإرتباك ، الخوف ” (فيما عدا القليل القليل من أبناء الأمة الذين كانوا على وعي كاف بطبيعة هذا التحرك ، وبحقيقة هذه المؤامرات) [الصرخة 1437ه] وأما معظم الأنظمة الرسمية (فقد اتجهت اتجاها آخر ، ونحت منحى آخر ، وهو منحى الاستسلام والإذعان ، والترحيب بهذا التحرك الأمريكي ، ولو أنه يستهدف بلدانها وشعوبها . ) [الصرخة 1437ه]
وفي هذا الظرف التاريخي العصيب ، والذي سقطت فيه كل المشاريع ، والأيديولوجيات القائمة ، في مواجهة هذه التحولات ، وفي دفع هذا الخطر ، وتحصين الأمة منه .
وحيث لم يعد المعول على الأنظمة الرسمية القائمة ، وكان المعولّ الحقيقي على الشعوب ذاتها ، لتتحمل مسئولياتها ، وتنطلق بوعي لمواجهة الأخطار المحدق بها ، إلاّ أنّ الواقع الشعبي ، للأسف ، كان واقعاً محزنا جدا في الوقت ذاته (الشعوب العربية التي تئن تحت إرث الماضي بكل مافيه ، إرث الماضي ، إرث التسلط ، إرث الاستبداد ، الشعوب العربية في واقعها الأعم الأغلب مغلوبة على أمرها ، مدجنة بفعل سطوة الاستبداد والظلم من حكامها ودولها وسلطاتها الجائرة ، فاقدة لحالة الوعي ، لا تعيش في واقعها الداخلي حالة المنعة اللازمة ، والاستعداد الكافي لمواجهة هكذا خطر ، بهذا المستوى الذي عليه أمريكا بكل قدراتها ، وخبراتها ، وتجهيزاتها الهائلة ، وجهوزيتها العالية ، ونزعتها الاستعمارية ) [الصرخة 1437ه] كانت الشعوب هي ضحية تلك الأنظمة التي لم تهتم بها ، ولم تعمل على تحصينها ، وإعدادها ، وبناءها ، بل عملت على الاستبداد بها ، لكسب مصالحها ، وذلك مع تحرك السياسات الاستعمارية الشاملة ، والناعمة التي تستهدفها ، وتمتلك الطرق الحديثة للاتصال بها – بشكل مباشر – والتأثير عليها ، وتدجينها . مع معرفة المستعمر بهذه الشعوب المستهدفة في هذه المنطقة (فيما لو تحررت ، وصححت وضعيتها ، واستفاقت من غفلتها ، وعادت إلى مبادئها وقيمها ) – يقول السيد عبد الملك حفظه الله – (لأن لديها من المبادئ ، والقيم ، والهدى ، ولديها من المقومات والقدرات ، والامكانات ما لو استفاقت ، واستيقظت ، وصححت وضعيتها ، وأصلحت واقعها لجعل منها أمة عظيمة مقتدرة حرة مستقلة لها هويتها المتميزة بحكم تلك المبادئ ، بحكم تلك القيم بحكم ذلك المشروع الرباني العظيم ) [الصرخة 1437ه]
من هنا كان الطريق للمواجهة معروفاً ( باستنهاض الشعوب من جديد ) إلاّ أنَّه كان يبدو مستحيلاً في ظل هذا الواقع السيء ، والرديء ، الذي لم تقف فيه المشاريع الاستعمارية الشاملة عن استغلاله ، وتكييفه ، ودفعه نحو مزيد من الضياع ، والتفكك ، والضعف .
ووسط هذه الأوضاع ، والظروف ، ووسط هذا السياق التاريخي ، والحضاري المأزوم للأمة العربية والإسلامية ، كانت ولادة المشروع القرآني الحضاري .. منطلقاً من الوعي بكل هذا الواقع ، ومشكلاته ، ومتطلباته ، وعلى نحوٍ واقعي ، وتدريجي ، وفاعل .
*أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإطلاق “صرخة” الحرية والكرامة* :
كان التحرك الأمريكي العسكري لاحتلال المنطقة قد بدأ بشكلٍ معلنٍ تحت ذريعة أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، وهنالك ( لم يتسنى للشهيد الق ائد أن يُكمل تحضير رسالة الماجستير – بالرغم أنَّه كان قد اعدَّها – فالتحرك الأمريكي لاحتلال المنطقة العربية بعد خدعة أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م جعل الشهيد القائد يصرف النظر عن دراساته العليا ، ويسارع في تقديم المشروع القرآني للأمَّة ) [مع الشهيد القائد : مسيرة فداء وتضحية ” / إعداد : يحي أبو قاسم عوَّاضة / إخراج دائرة الثقافة القرآنية / ط1، 2018. صـ47]
كان من أولى الخطوات العملية ، والممكنة ، والمؤثرة جداً ، هو دعوة الشهيد القائد –رضوان الله عليه – إلى رفع “الشعار” المتمثل بالصرخة بالبراءة من أعداء الله ، وأعداء الأمة “الله أكبر . الموت لأمريكا . الموت لإسرائيل . اللعنة على اليهود . النصر للإسلام ” وشعار ” المقاطعة للبضائع الأمريكية والإسرائيلية ” كخطوة عملية ، بسيطة ، وممكنة ، تنقل الناس من حالة اللاموقف إلى الموقف ، وصاحب ذلك التحرك ، والسعي ليلاً ونهاراً ، من قبل الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه ، لتثقيف الناس بالثقافة القرآنية (سلسلة الدروس والمحاضرات التي كان يلقيها السيد حسين رضوان الله عليه ، وكانت قد سُجّلت في حينه ، ثم نُقلت وطُبعت في ملازم ورقية ، وعليها ينبني هذا المشروع القرآني كما قال السيد عبد الملك في إحدى كلماته) وذلك مع ابتداء النظام السابق بشن حملات الاعتقالات – لمن كانوا يهتفون بهتاف الحرية – واتخاذ إجراءات ظالمة أُخرى بشأنهم كالفصل من الوظائف ، وتحرك السفير الأمريكي بصنعاء آنذاك ، ومتوجهاً إلى صعدة (شمال اليمن حيث كانت ولادة هذا المشروع ) لجمع السلاح ، وشراءه من سوق “الطلح” (من أشهر أسواق السلاح في الجزيرة العربية) لتجريد المنطقة من السلاح ، وذلك إعداداً لحصارها ، وإعلان الحرب ضد أبنائها ..
*وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا*[الجن :19] :
وأُعلنت الحرب (الأولى) على منطقة صعدة 2004م في اليوم التالي من عودة رئيس النظام حينها (على عبدالله صالح) من زيارته لأمريكا ، ولاية جورجيا . وبدأ القصف المدفعي على سكان جبل مران – حيث يقيم السيد حسين رضوان الله عليه – يوم الأحد صباحا 17/6/2004م . وتحرَّك النظام بكل عتاده العسكري لاستهداف السيد حسين بدر الدين الحوثي – رضوان الله عليه – واستهداف دعوته التي أراد بها استنقاذ هذه الأمة من حتفها ، واستنهاضها لمواجهة مشاريع الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية ! بعودتها إلى كتاب الله ، والتثقف بثقافة القرآن الكريم .
وهنالك شارك أكثر من ثلاثين ألف جندي ، وأربعة عشر ألف مرتزقة !
قتلوا ، ونهبوا ، وسحلوا ، وحاصروا ، فمنعوا الماء والدواء والغذاء ، وعملوا على التعتيم الإعلامي الرهيب ، مع تصوير دعوة السيد حسين في حينها ، بأنّها دعوة للرجعية ، و الامامية ، والمجوسية ، وروافض .. ضمن حملة دعائية تضليلية رهيبة واسعة ، استهدفت المجتمع اليمني ، لتثير في أوساطهم الطائفية ، واستهدفت أبناء القوات المسلحة والجيش لتزج بهم في معركة ظالمة ، وخاسرة ، قُتل منهم الآلاف .
وحين وصلوا إلى ذلك الرجل المؤمن العظيم الشجاع الثابت ، والذي استشهد – رضوان الله عليه – في 26 رجب 1435ه ، 10/سبتمبر/2004م . كانت آخر عبارات قالها هي : (اللهم ثبتني بالقول الثابت) وفي الجانب الآخر : كان رئيس النظام السابق حينها يقول (بلغوا السفير الأمريكي أننا قد قتلناه) .. وتمّ تقديمه قرباناً لاسترضاء أمريكا ، وإسرائيل .
*وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ* [الصف: من الآية 8] :
لم يكن استشهاد السيد حسين ليطفئ النور الذي انبثق .. هنالك حمل السيد القائد عبد الملك بدر الدين (حفظه الله وأعزه) لواء هذا المشروع القرآني ، والمسيرة القرآنية ، واستمرت الحروب الظالمة (ستة حروب) شنَّها النظام السابق ، وحشد لها كل قوته ، وإمكاناته العسكرية ، والإعلامية التضليلية ، وجمعت لها التحالفات القبلية ، وشارك فيها حلفاء السلطة آنذاك من حزب الإصلاح (الوهابي التكفيري) ، وجناحهم العسكري ، والقبلي ، كما شاركت السعودية بطيرانها بشكل مباشر في الحرب السادسة (2009م) .. استرضاءً للأمريكان .
وعلى الرغم ، استطاع هذا المشروع أن يحقق ما حققه ، وأن ينجز ما أنجزه ، وبحيث استطاع أن يوجد حراكاً ثقافياً واقعياً ، ظلّ يمتد يوماً بعد يوم ، في زمن تساقطت فيه كل المشاريع الأخرى أمام الهيمنة الاستعمارية الشاملة.
وما حدث منذ عام 2002م – منذ بدأ السيد حسين بدر الدين بالدعوة إلى هدى الله ، وإطلاق الشعار ، وما صاحبها من دروس ومحاضرات تثقيفية توعوية قرآنية – وحتى اليوم ، وحتى أصبح لهذا الطرح الثقافي القرآني مسيرةً عملية ملموسة ، وأصبح لهذا المشروع تكتلاً اجتماعياً واقعيا ، وفاعلاً بالرغم مما واجهه في تلك البدايات ، وما زال يواجهه حتى اليوم ، كلّ ذلك هو من الأحداث التي لا تحدث في تاريخ الأمم إلاّ فيما ندر ، ولا تتكرر في حياة أمتين في عصر واحد ، وزمن واحد ، لأنها من التجارب التي تمثل مف صلاً تاريخياً ، وتحوَّلاً كبيراً ، وعميقاً ، وتُنبئ عن مخاضٍ لا ينتهي أمره ومداه في تلك الرقعة الجغرافية الضيقة التي احتضنت الولادة الأولى .
والآن فإنّ كلّ ما يمكن أن يُقال عن مشروع حقيقي ، واقعي ، فاعل ينهض بالأمة من هذه الوضعية الخطيرة التي انزلقت فيها ، وكل ما يمكن أن نتصوّره كمراحل عملية أوَّلية يتحرك بها هذا المشروع بين الناس ليصبح حراكاً واقعياً ملموساً ، قد أُنجز بالفعل من خلال هذه المشروع القرآني الشامل الذي أصبح واقعاً ملموساً ، ومُتحركاً في حياتنا ..
وهو ما يدعو كل المخلصين ، والمهمومين بواقع الأمة ، وما آل إليه ، إلى تأمل هذه التجربة ، والوعي بهذه اللحظة التاريخية ، واستشراف التحولات الكبرى القادمة داخل المنطقة .
ولعلّ من الأهمية بالنسبة للكثير من الدارسين ، والباحثين التأمّل في الجوانب المختلفة من هذه التجربة ، ومن ذلك : ما يمكن أن يميّز طريقة ومنهج هذا المشروع بوصفه مشروعاً ثقافياً فكريا حضارياً استطاع أن يقدّم قراءة شاملةً للخطاب القرآني ، ليعيد تقديمه في واقعنا كمنهج للحياة ، ينهض بالأمة ، ويعيد بنائها ، ويحصّنها ضد الأخطار المحدقة بها ، ويستعيد رؤيتها لذاتها وللآخر ، ويستنهضها لمسئولياتها – ليس في مواجهة عدوها وحسب – بل ولدورها الرسالي ، والحضاري الحقيقي والمُغيَّب في هذه الحياة ، موضحاً الوسائل والطرق ومقوّمات هذا النهوض ، ومُشخِّصاً العلل والمعالجات المناسبة لها .. على أساسٍ من هدى الله .
يقول السيد عبد الملك حفظه الله (في مشروعنا القرآني ، في مسيرتنا القرآنية ، ننطلق على هذا الأساس : أننا كشعوب لم يبق لنا أن نعتمد إلاّ على الله ، وأن نتحمل مسؤلياتنا بشكل مباشر ، ليس هناك من يمكن أن نعول عليه ، أو أن نعتمد عليه ، لا أمم متحدة ، ولا انظمة ، ولا أي كيانات أخرى . ثمّ لا بد أن نتحرك ضمن مشروع ، لا أن نبقى هكذا ، نضرب برؤوسنا عرض الحوائط ، من حائطٍ إلى آخر ، بل نتحرك ضمن مشروع . وأرقى ، وأسمى وأعظم مشروع يمكن أن نتحرك من خلاله هو المشروع القرآني ) يقول مُستأنفاً ( القرآن هو الكلمة السواء ، القرآن الذي يعطيك الفكرة ، يعطيك التصور ، يعطيك المنهجية ، يعطيك المُحفّز ، يصنع فيك الروحية ، وينتج ، ويُعزز فيك الطاقة اللازمة ، والدافعة للعمل )[لقاء الأكاديميين]
وهذا المشروع القرآني الذي نتحدث عنه هنا هو كما يقول السيد عبد الملك بدر الدين رضوان الله عليه (مشروع له كل المميزات التي يمكن أن ننشدها تجاه مشروع بناء عظيم فعّال مفيد ، يمكن أن تعتمد عليه الأمة بما تعنيه الكلمة ، ويمكن أن يُشكّل مخرجا للأمة بما تعنيه الكلمة ، ومعالجاً لكل إشكالاتها بما تعنيه الكلمة ) [لقاء الأكاديميين]
وتمثّل هذه القراءة المتواضعة جهداً مضافاً إلى جهود الآخرين ممن كتبوا حول المشروع القرآني ، وسوف نتحدث عنه – بعد هذه المقدمة – من خلال موضوعات معينة ، هامة ، ومحدودة ، اتبعت فيها ما كان السيد عبد الملك – حفظه الله – قد أشار إليه من مميزات هذا المشروع القرآني ، وعلى الله قصد السبيل . ((يتبع))