قنَّاص مجازة
د. مصباح الهمداني
أربع دقائق وعشرون ثانية، أخذَت لُبابَ عقلي تسبيحًا وتأملا، ولاشك أنها ستأخذ قلب كل سعودي يشاهدها رعبًا وهلعا.
المكان في عسير، وبالتحديد في مجازة.
تنطلقُ أصوات الرصاصِ من كل مكان، ويقفُ السعاودة على جبلٍ كبير، ويقابلهم أشبال المسيرة في تبةٍ عالية، وترتج الجبال بأصوات الأشبال، وهُم يرددون الصرخة، وحينها ترتعد الفرائص السعودية، ويُقررُ أحد المذعورين ترك مكانه، والتوجه نحو الطريق، علَّ مدرعةً أو طقمًا ينقله إلى مكانٍ بعيد عن الأصواتِ المُرعبة والمواجهات الساخنة، تسير به قدماه بلا هُدى، ويضعُ أحد الأشبال إصبعه المباركة على الزناد، ويثبتُ عينه على “المَشافْ” ويقول بسم الله، فتنطلق الرصاصة اليمانية من القناصة اليمنية ويسقط بدن السعودي المتضخم كالبعير، ويخرجُ جندي آخر فيواجه نفس المصير.
وما هي إلا لحظات؛ حتى تأتي أحدث المدرعات، وكأنها تسخر من كل القذائف والطلقات، وتُفتحُ أبوابها، وينزل المسعفون لأخذ الجرحى، ويلتزم الأشبال بعدم التصويب، لكن المدرعة تفتحُ نيرانها، بعدَ أن حملتْ فئرانها، فيلتفت الأشبال حول عتادهم وليس هناكَ صاروخ موجه ولا حتى بازوكة في تلك التبة، فيمد الشبلَ قناصته، ويتفحص المدرعة بعدَ أن سكنت، واطمأن على ثباتها، وتبين مواضع الدسم فيها، وكأنه جراح ماهر؛ ويردد كالعادة” وما رميتَ إذ رميت ولكن الله رمى”، ويجيبه زميله المرافق له داعيًا” يارب احرقها”.
خمسُ ثوانٍ معدودة، وتبدأ النيران تُعلنُ ولاءها للأشبال واستجابتها لدعوات الأبطال، وترتفعُ ألسنة اللهب، وتحترقُ بمن فيها من مجرمين ومسعِفين ومسعَفين، ويسجد القناص ومن معه لله شاكرين.
يتصل السعاودة في الجبل بقيادتهم، ويُخبرونهم بما حلَّ بزملائهم ومدرعتهم، فيتحركُ أحد الأطقم، ويربضُ بجوار المدرعة، ويستطلع الأمر، فلا يشتَم إلا روائح الشواء المتصاعدة، ولا يرى إلا أدخنة النيران الملتهبة، ولا يكاد يرى عدَّواً في المُحيط.
وما هي إلا ثوان، وتُعلنُ القناصة اليمنية ترحيبها بالقادم الجديد، والزائر المتغطرس الفريد، وتسكن الرصاصة في خزان الوقود، وتتسابق النيران إلى الجنود المذعورين، بسرعة فائقة.
وفي أعلى الجبل السعودي؛ يشاهد الجنود ما حلَّ بالمدرعة والطقم خلال ثوانٍ معدودة، فيقررون النزول من الجبل، لكنَّ عين القناص لا تغفل، ويده لا تتوقف عن العمل، فيُوجه فوهتها نحو الأعلى ويصطادُ أحد الجنود، فيتدحرجُ كأرنبٍ ملدوغة، ويلحقُ به جندي آخر ظنًا منه أنه تزحلق، فيلقى المصير ذاته، ويظهرُ ثالث ليستطلع ما حدث ويحدث بسرعةٍ دراماتيكيةٍ مذهلة؛ لكنه لا يهنأ بمسح نظراته على الجبال المُحيطة، وتسكن في أحشائه رصاصة مسددة، ويسقط بعدها بلا حراك.
ثم يبدأ سباق الهروب المعتاد، ويتوقف القناص عن ملاحقة الفارين، ويغطي صدر الجبَلِ إدبارهُم المُهين، وهزيمتهم النكراء.
لم يحدُثْ في التاريخ أن قناصةً عادية؛ تُحرقُ أحدث المدرعات الأمريكية بطلقة واحدة.
إنَّ مصانع اليمَنْ اليوم تُحدِثُ هزةً في أعماقِ مصانع أمريكا وإسرائيل والغرب عامة، ورجال اليمن يُحدثون فجوة في قِباب الكُليات العسكرية والحربية العالمية.
دقائق معدودة سجَّلتها الكاميرا؛ تتحدثُ عن عمالقة اليمن، وعظماء التاريخ، وأقيال الجُغرافيا، وفرسان الزمن، ورجال الحرب، وجبالُ الأرض، وحماة العرض.
أشبالٌ حملوا ألوية الجيوش فوق أكتافهم، وكتائب المعسكرات على سواعدهم، لم تُعلَّق النياشين يومًا على صدورهم، ولكنهم علقوا الغزاة في كل جبلٍ وسهل، ولم يتخرجوا من كليةٍ حربية أو عسكرية، لكنهم أخرجوا المدرعات من الخدمة، وأسقطوا الطائرات من الأجواء، وصنعوا عدتهم بأيديهم، وأصبحَ شأنهُم يملأ الدنيا، وشجاعتهم حديثُ العالم كله.
فسلام الله عليهم وعلى قائدهم وعلى بطونٍ أنجبتْ هؤلاء العظماء.