عِشنا وشفنا.. فالعهدُ قريب والجُرح لمّا يندمل
محمد دريب الشريف
نعم ؛ عشنا وشفنا أصناف العذابات والبؤس والحرمان والفقر والتخلف والتجهيل والشتات والهجرة ومخيمات النزوح والتشرد والكد والتعب والشقاء وموت الضمير ، وشفنا أيضا كبار البطون وما وصلت إليه أرصدتهم وعقاراتهم وممتلكاتهم وقصورهم وسياراتهم ومراكبهم وطائراتهم ، وشفنا معسكراتهم وهيلماناتهم وأبهاتهم ونياشين أطفالهم ورتّب نسائهم وأقربائهم، وشفنا مرافقيهم وجلاوزتهم وعبيدهم في بحبوحة العيش وفاحش الثراء، وشفنا أسوأ المعاملات والرشوات والتجاوزات وتقديم عيال الخالات والعمات على حملة الشهادات وأصحاب الكفاءات وتوظيف من لا يستحق الوظيفة ولا تتوفر فيه أدنى معاييرها..
وشفنا المُتعلم مهضوم منبوذ مقهور مغلوب مهزوم مجفو محروم ، يعايش الكربات والآهات والمرض والفقر والإهمال، ويقابله الدلخ الهَمِج الذي لا يتكّلم ولا يتفّهم ولا يتعّقل ولا يسمع ولا يعرف إلّا حاضر، سابر، على طول يا فندم هو “فندمٌ” أيضا وهو ضابط الشرطة ومسؤول الجمارك والقاضي والمحامي ومدير الأمن والمحافظ وقائد اللواء وشؤون الضباط والأفراد والقادة والصف والمفتش العام وأمين الصندوق والأمين العام والكاتب والسكرتير، وهو المحاسب والمراقب والنائب في البرلمان والعضو في مجلس الشورى ومدير التغذية ومسؤول الصحة والتربية والتعليم، وهو رئيس الجامعة ومدير المعهد وعضو الهيئة والوزير..
ورأينا أنصاف المتعلمين هم الدكاترة في الجامعات، ولهم المحاضرات والمكاتبات وبيدهم الامتحانات والنتائج وحق تقرير مصير الناجحين والفاشلين..
وهو الطبيب في المستشفى وصارف الدواء في الصيدلية والأستاذ في المدرسة والمُحاضِر في الأكاديمية والمذيع في التلفاز والصحافي في الجريدة، وهو العالم والمفتي والخطيب والمؤلف ومن له حق النشر والحشر والكلام والسلام، وهو مسؤول الحزب في القرية والسكرتارية في المحافظة والعضو في الأمانة بل هو رئيس الحزب، ولئلا أخون الحقيقة : هو رئيس الجمهورية اليمنية الديمقراطية ومن بيده الحلّ والعقد ومِنه وإليه أمر البلاد والعباد وقرار السِّلم والحرب والمنع والعطاء..
وشفنا المواطن يُهان ويُداس ويُغالب وهنه وضعفه في كل يوم وساعة وحين لقلة الزاد والعتاد وأبسط مقومات الحياة..
ويُصارع أسباب الفقر والجوع والفاقة والمرض والكآبة، ويجالد الجفاء والإبعاد والحرمان والإهمال، ويُعارك الموت الذي يريد أن يتخطف روحه وأرواح أولاده من بين يديه وزوجته وأمه وأبيه..
شفنا المزارع كيف يَكُد ويتعب ويجاهد ويسهر الليل ويُلحقه النهار، ويحفر الأرض بحثا عن الماء ويحرثها ويهيئها ويشق الجبال ويهد الصخور ويختلط دمه بعرقه ليُحيى الغروس وينمي الثمار ليجد الأسواق مملؤة بالمنتجات الخارجية والمحاصيل الإقليمية..
شفنا المهاجر من بيته وأسرته يعاني الغربة ويشكي بُعد النوى وهجران الأحبة، وهو يحصِّل علومه ويجاهد جهله ويقتل تبلده ويترقى من مرتبةٍ علميةٍ إلى التي تليها بصبر وعزيمة وشكيمة وكله أمل وأحلام عِظام في العودة إلى مجتمع يُفيده وينفعه بما تَعَلمه، ليجد كل الطرق قد أُغلِقت وسدّ مسده بأمعة مخبول من أصحاب ” تمام يا فندم ” ليجد نفسه بين خيارين في كليهما المُرّ والعلقم ؛ إما الهجرة الى حيث يرافقه الحزن وعذابات البعد إن حالفه الحظ وتحصل على كفيل يسومه سوء الامتهان في بلاد الغربة أو البقاء تحت سطوة البلها وعصابات الحمق..
شفنا العالم الجهبذ كيف يُسلب منبره، يُغلق عليه باب داره ويُعزل عن مجتمعه وأبناء وطنه ويُحاصر ويُراقب ويُسلط عليه الجواسيس والوشاة ويُحرم مُستحقه ويُسلب حريته ويُكمم فاه ويُهتضم حقه ويُسَفّه ويُحَقّر وتُشَنُّ بحقه الحملات والدعايات وينتهي به الحال – إن حَسُنَ حاله وحالفه الطالع ولم يقتل – إلى الزنازين وتحت رحمة الجلادين وعديمي الضمير وعبيد المال والسلطة..
شفنا -وما أدراك ما شفنا- وأنت خير العارفين بما شفنا وقد كنت أحد الشهود والقعود على أخدود محرقتنا والإبادات ، ولكن تتجاهل أو تتغابى أو تُغمض عينيك وتحاول التناسي كونك من أصحاب ” تمام يا فندم ” والفندم له عليك مِنّة إذ جعلك ضمن حاشيته وسلّطك على رعيته بدون أدنى معيار يتوفر فيك لتلك المهمة إلا الموافقة على تنفيذ ما يطلب منك بدون التفوه بحرف ولو سلخ جلود الأولياء والعارفين..
فلا مجال للمزايدات والمغالطات والتباكي على زمن أجمل ما فيه يومٌ يَمُرُّ على مريضٍ وقد تَحَصّلَ على قرص دواء من منظمة إغاثية ، وطالبٌ جامعي وقد تبرعت له إحدى الجمعيات الخيرية بوجبة غدائه ، وأستاذٌ وقد تصدق عليه أبناء القرية برغيف خبز يسد به جوعه ، ومزارع وقد حَصَلَ على دبّة من ” الديزل ” بعد أن بذل أضعاف ما فيها من عَرَق جسمه تحت الشموس الحارقة في طوابير المذلّة وإمعان سحق الكرامة..
لا مجال للمزايدة والتذاكي وتَصَنُّع الخداع لأنّكم لن تسحروا أعيننا ولن تغلوا بنا على عقولنا بمجرد تُرهات وأخبار فاسدة كاذبة عن زمن عشنا أحداثه الجسام بكل تفاصيلها التي نحاول نسيانها والتخلص من ذكرياتها المُرَّة والمؤلمة، والتي أيضاً مازلنا نعيش ترسباتها السلبية وآثارها الكارثية على مجتمعنا وأمتنا ووطننا المسلوب..
احترموا فيناعلى الأقل عقولنا واعلموا أننا بِتنا نُدرك ونتفهم ولم نعد كسابق عهدنا قطيع يقوده ذئب إلى المسالخ والمذابح دون العمل بما يُوحي بإدنى معارضة أو ما يُفيد الرفض وعدم القبول..
ولعلمكم أننا كنّا نَتَفّهم وندرك حينئذ، ولكن كان التظاهر بالإدراك والفهم جريمة يُدان صاحبها وجناية يستحق عليها القتل والسحل ، والنفي في أكثر الاحتمالات سلامة عن الأهل والأوطان، ولهذا غَلّبنا منطق الصمت حتى أذِنَ الله لكم بالسقوط وخسران الدنيا بعد الآخرة ..
احترموا شعباً أهنتموه وأفقرتموه وعبثتم بكرامته وأهدرتم مقدراته ونهبتم ثرواته وأبحتم دماء أبنائه وسفكتموها وأفسدتم أحلامه وطموحاته في العيش الكريم والسلامة مقابل أطماعكم وأحلامكم في التسلط وتملك العباد والبلاد عنوة وقسراً ورغم حتف الأنوف وقتل الألوف..
أسكتوا كحد أدنى، وهذا يُمثل لشعبكم قمة الاحترام والتأدب والتوبة عما أجرمتموه واقترفتموه بحقه وحق وطنه المغلوب المنهوب بفضل سياساتكم الحمقاء وإداراتكم الفاشلة وجشع بطونكم وغلبة الجهل على عقولكم وتصرفاتكم التي كان يفترض أن تُحاسبوا عليها لولا رحمة لنت لكم وتفضل من قبل قيادة كريمة غَلَّبت منطق الرحمة والعفو والتغاضي عن الاقتصاص والأخذ بالجريرة والحساب الذي يفترض أنّكم تستحقوه وهو بحقكم مشروع في دين وعُرف وإنسانية.
أسكتوا، وقليل من الحياء وحفظا لماء الوجه – إن تبقى في وجوهكم ذلك – وخفظ الجناح للمنعم الذي أنعم عليكم بعفوه وتفضل بعتق رقابكم من قصاص محقق رغم الجراح الغائرة التي تعتصر القلوب آلماً ووجعاً وحزناً وذكريات أقل ما فيها صور الحرب الشعواء التي شُنت لتُهلك الحرث والنسل وتتسبب في فقدان الأهل والأحبة وبُعد النوى وحزونة الجبال والكهوف والهيام في الصحارى والقفار أملاً في الخلاص من شِراك كيدكم ومكر تزول منه الجبال، لا لذنب إلا كلمة التقوى وإخلاص النصيحة وصدق الكلمة وقول الحق الحقيق..
أسكتوا، وهذه نصيحةٌ وموعظةٌ علّكم تتقبلوها ولا تسمحوا لذنوبكم وموبقاتكم أن تخذلكم عن قبول مثلها والمكابرة عليها والتطاول في زمن الخذلان الإلهي الذي يُلحظ جلياً في واقعكم وخاتمة السوء في حياتكم بسبب الكبر والعنجهية والتعالي التي كانت ميزتكم وشيمتكم في زمن لم تتركوا فيه لأحد كرامة إلّا وسحقتموها وأمعنتم هتك الأستار وسلب الحريات وقهر الكبار والصغار والرجال والنساء من أبناء شعبكم ..
أسكتوا، وهذا أقل الواجبات، بل تفضلوا على شعبكم بذلك وأسدوه معروفا يدين لكم به ، أما مؤازرتكم ونجدتكم فلا يُرجى من مخذول قوة ولا من راضعٍ مدد ، وقد يئس الشعب من نُصرتكم وعونكم وإن تظاهرتم – ليصدقكم البلهاء والحمير – بالنُصرة والمؤازرة المستبعدة – عن علم وتجربة – بحقكم وبعيدة كل البعد عنكم وعما تستبطنونه ويظهر بين الفينة والأخرى في قسمات وجوهكم وفلتات ألسنتكم التي لا تكاد تتوقف عن كيل التُهم ونشر الشائعات والتثبيط والتشاؤم والتفاؤل بالانهزام وتوهين العزائم عن مقارعة الغزاة وجهاد المستعمرين وقوى الاحتلال ..
أو تعلَّموا السكوت – إن لم تجيدوه – ففيه الحكمة خصوصاً في وضع كهذا تكشفت فيه كل أوراقكم وتوضحت للشعب جرائمكم وبات يدركها الصغير قبل الكبير بعد أن استنفدتم كل مفردات اللغة، وأعيتكم صناعات المنطق والفلسفة في المصادرات والمغالطات والتستر على الكوارث والجرائم التي اجترمتموها بحق شعبكم ووطنكم الجريح..
بل يُفترض أن تَسكتوا قبل أن تُسَّكتوا وتُخرس ألسنتكم إذا حقت عليكم لعنة الشعب واستحقيتم عقابه الصارم واتخذ القرار بمحاسبتكم على السابق واللاحق، وكان منه وإليه أمر مقاضاتكم ومحاكمتكم على جرائمكم التي يندى لها الجبين وتتقزز من ذكرها النفوس والفطرة..
أسكتوا ودعوا الشعب يُقرر مصيره ويخوض معركته ويشق طريقه إلى ما يريد ويرغب، ولا تحرفوا بوصلته إليكم بفضل النباح والصياح والزوبعة والنفاق والشقاق الذي تمارسونه فيقصم ظهوركم ويلوي رقابكم التي تشرئب إلى ما هو أبعد من مواقع النجوم ، ويشعل النار في أقشاش أطماعكم وجشعكم وأحلامكم في العودة إلى التسلط والرقص على رؤوس الثعابين..
أسكتوا وكفوا أذاكم عن رسول الله محمد أيها الحمقى المعتوهين وتأدبوا في حضرته ومناسباته، فما غالبه أحدٌ إلّا غُلب، وما صارعه إلّا صُرع وأُهين وسُحِق تحت نعال الوافدين إلى وفاد منقذ البشرية وهاديها ، ودون مقدساتنا ورموزنا وأعلامنا نخوض عباب الموت ونشق غبار المهالك ونموت ونستشهد بكل عنفوان وكبرياء،،