اليمن.. البلد الذي قد يدفن وعد بلفور
في الثاني من نوفمبر 2019م حلت الذكرى السنوية الثانية بعد المائة لوعد بلفور المشئوم والذي وعدت من خلاله بريطانيا العظمى آنذاك بتوطين اليهود وإنشاء دولة لهم على التراب الفلسطيني.
سمي وعد بلفور باسم وزير الخارجية آنذاك آرثر بلفور في العام 1917م، ومن اللافت أن هذا الوعد لم يقدم الى المؤسسات الصهيونية او اليهودية الناشطة في أوروبا، بل قدمته الحكومة البريطانية ال عائلة روتشيلد اليهودية وهي العائلة الأثري في العالم وان كانت لا تظهر في بيانات المؤسسات الاقتصادية – عائلة روتشيلد – بين أثرياء العالم لما تحيطه هذه العائلة من سرية حول أموالها ونفوذها الذي يضاهي دولا بحد ذاتها رغم امتلاكها لمصرف إنجلترا المركزي وامتلاكها حصة في البنك المركزي الأمريكي.
وتقيم الحكومة البريطانية كل عام احتفالا بذكرى صدور هذا الوعد في لندن يحضر فيه أقطاب عائلة روتشيلد ويتلقون ضمانات مجددا ببقاء بريطانيا إلى جانب اليهود وكيان إسرائيل.
نجح وعد بلفور في البقاء حيا لما يزيد عن قرن من الزمان، فإن الآمال تتضاءل يوما بعد آخر بأن يعيش منتوجه المسخ “إسرائيل” ذات المدة، باعتراف أقطابها اليوم بأن واقعا ملتهبا يحيط بالكيان، وللمفارقة فمن أشعل هذا المحيط كانوا قادة “إسرائيل” بدءا منذ حروب بوش الصليبية عقب تفجير برجي منهاتن، مرورا باحتلال العراق ومحاولات وأد المقاومة اللبنانية -حزب الله – في العام 2006م بحرب ال33 يوما، كمقدمة لتشكيل ما عرفته وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كوندوليزا رايس بالشرق الأوسط الجديد، وإغراق دول بعينها في اوضاع غير مستقرة كالعراق واليمن باستخدام ما يسمى القاعدة، وصولا إلى السطوة على ثورات الربيع العربي في العام 2011م، وسوق المنطقة الى وضع غير مستقر تحت مسمى الفوضى الخلاقة التي تبنتها إدارات أمريكية متعاقبة خدمة للكيان الصهيوني رغم تعارض أجزاء منها مع المصالح الأمريكية، وهو ما عبر عنه بوضح الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بأن نفذ سياسات لخدمة ” إسرائيل ” في المنطقة أضرت بمصالح الولايات المتحدة لكنه يشعر بالرضى وفق قوله.
الدفع نحو الفوضى وتفتيت المنطقة لهدف إبقاء إسرائيل الدولة القوية اقتصاديا وعسكريا الوحيدة في المنطقة صاحبه سفك دماء غزيرة في المنطقة، أكثر من مليوني قتيل في العراق وحده، وما يقرب من مئات الآلاف في سوريا، واليوم في اليمن وأن اختلفت أشكال الفوضى، باستخدام المجموعات التكفيرية متعددة الأسماء والولاء بحسب مصدر المال، أو عبر عملاء إقليميين كالأنظمة الخليجية، كما جرى في سوريا والعدوان على اليمن خدمة للأهداف الصهيونية بشكل رئيسي.
وللمفارقة فكل هذه السياسات الصهيونية في جوهرها وإغراق المنطقة في بحور من الدماء والفتنة والفوضى الخلاقة بحسب واضعي السياسة الأمريكية جرت دون أن تتكلف الخزينة الإسرائيلية أو اليهود في العالم بنسا واحدا.
لقد فتحت الأنظمة الخليجية خزائن أموالها على مصراعيها وضخت مئات المليارات لإغراق سوريا والعراق واليمن بالدماء، ولا تزال تقوم بهذا الدور في هذه البلدان، واليوم تجري التحضيرات لإغراق لبنان في الفوضى، و تفيد المعطيات عن ضخ الامارات والسعدية ودول خليجية أخرى أموالا لزعزعة استقرار لبنان بهدف حصار حزب الله بحسب ما اعترف به الصحافي الأمريكي ديفيد اوغناتيوس والذي يرتبط بدوائر البيت الأبيض وتعتمد عليه في التقييم، وهو زار لبنان والتقى قادتها السياسيين من حلفاء واشنطن، قبيل الحراك اللبناني بأسبوعين ثم عاد وكتب مقاله ” إذا كنا خسرنا سوريا فلنحافظ على لبنان” وتضمن مقاله جملة مطالب الحراك الشعبي وفي جوهرها إبعاد حزب الله عن المشاركة في الحكومات للبنانية تحت عناوين براقه ومحاصرته، ودفع لبنان إلى تسوية مع ” إسرائيل ” تحت وعود الأموال الخليجية التي تدفقت لتمويل الحراك الشعبي وظهر ذلك جليا على شاشات التلفزة.
وللإنصاف فالمال وحده لم تقدمه السعودية، بل قدمت الوهابية التي ساقت جيلا من الشباب نحو المحارق في أفغانستان منذ نهاية السبعينيات والعراق وسوريا واليمن على امتداد السنوات العشرين الماضية خدمة للأجندة الصهيونية في المنطقة، وكتب صحافي أمريكي قبل نحو عام أن جيلا من الوهابيين المتحمسين للجهاد والجنة، قد فنوا في العراق وسوريا واليمن، ولا بد من الانتظار عشر سنوات أخرى لينشئ جيل جديد يقاتل، وإن كانت امريكا جادة في محاربة “الإرهاب ” فعليها التوجه الى حليفتها وإقفال الجامعات ومراكز ومقرات الفكر الوهابي الذي يغذي داعش والقاعدة والنصرة.
ومن المعلوم أن الأذرع التكفيرية في المنطقة التي ولدت من رحم العقيدة الوهابية والجامعات السعودية أضحت ورقة مستهلكة ومفضوحة، ولا يمكنها البقاء حتى تنتج جيلا آخر من البلهاء الحاضرين لتفجير أنفسهم في الأسواق والطرقات لزعزعة استقرار المنطقة، وبالتالي فتحقيق مكسب اعلامي دولي أمر محبذ، في ظل الصراع مع محور مقاوم وضع نصب عينيه بلوغ منابع الفكر التكفيري واجتثاثه وقطع مصادر تمويله، وعدم الانتظار كي يأتي التكفيريون إلى بلدان العالم الإسلامي ليعيثوا فيه فسادا بتوجيه أمريكي صهيوني لم يعد خافيا، وأكد ذلك السيد حسن نصر أمين عام حزب الله في أحد خطاباته في عقب سلسلة من التفجيرات التي طالت الضاحية الجنوبية في العام 2013 و 2014م،
وفي الحرب بسوريا ظهر جليا دعم إسرائيل المباشر للمجموعات التكفيرية على حدودها ودفاع هؤلاء عنها، وهي قامت مع دول أخرى بإخلاء عناصر الخوذ البيضاء من سوريا حتى لا يقعوا في يد الدولة السورية ويدلوا بتفاصيل فبركات الهجمات الكيميائية التي استغلت لأحداث نقمة دولية وضربات عسكرية ضد الدولة السورية.
وخلال السنوات الماضية صورت ” إسرائيل” هجماتها على سوريا وحلفائها بكونها انتصار عسكري لطرف هو الأقوى في المنطقة، لكنها في واقع الأمر عبرت عن أزمة حقيقية بخسارة أهم الأوراق لعقود وهي الورقة التكفيرية التي قاتلت بالنيابة عن إسرائيل والأجندة الأمريكية والصهيونية لعقود ولم تكن بحاجة على الدخول في مواجهة مباشرة سواء في العراق أو في سوريا أو في أي بلد آخر.
خسارة الورقة التكفيرية في سوريا وتحجيم دورها في اليمن من قبل أنصار الله، هو ما دفع إسرائيل إلى الانتقال لمرحلة جديدة تمثلت في الدفع بعلاقات علنية مع دول خليجية في مقدمها السعودية، والحديث عن مصير مشترك في مواجهة محور المقاومة، والمشاركة للمرة الأولى إلى جانب دول عربية في العدوان على بلد عربي مسلم هو اليمن، لم تخف ذلك تقارير وسائل الإعلام الصهيونية ولا تصريحات الساسة والعسكريين الصهاينة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن طائرة إف 35 التي تسلمتها تل أبيب من الولايات المتحدة الأمريكية نفذت أولى عملياتها الجوية ضد أهداف في اليمن.
حديث رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو عن خطورة الأسلحة التي يمتلكها اليمن وأنها أضحت تمثل تهديدا حقيقيا للكيان العبري، تعبر عن مخاوف الوسط الصهيوني بأكمله، وليست دعاية انتخابية يطلقها نتنياهو لإعادة تكليفه بتشكيل الحكومة الصهيونية تقول أوساط صهيونية، ودخول ” إسرائيل مرحلة جديدة ومفصلية يصبح بقائها مع وضع كهذا أمرا مشكوك فيه.
ولا تخفي تلك الأوساط بأن ضرب منشئات بقيق وخريص مؤشر قوي على ان هناك طرفا في اليمن يمتلك الجرأة ليفاجئ العالم ولا يخشى شيئا وهو متحلل من العقد الطائفية والسياسية التي قد تكبل حلفائه، بل هو يتجاوز حلفائه بمراحل، ولديه العدة والعتاد اللازم ليفعل ذلك، ولن يتردد عن المضي بتحقيق هدف استعادة فلسطين والقدس، وهو يعبر عن ذلك بوضوح، كما لم يعد لديه بعد خمس سنوات من القتال ما يخسره بل أضحى أكثر قوة وعزما على تحقيق الانتصار وهو يعلن بلا مراء إنه حاضر للذهاب إلى الانتصار الكامل وإزالة ” إسرائيل ” الذي يدعو إليه حليفه أمين عام حزب الله، وعلى إسرائيل فعلا أن تخشاه.
ويشير محللون بأن حزب الله سيكون أكثر جرأة للدخول في حرب مع ” إسرائيل ” تنتهي بزوالها، في ظل وجود حليف قوي وموثوق كالسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، والذي رغم ما يتعرض له بلده من عدوان وحصار، أعرب عن استعداده لإرسال المجاهدين إلى فلسطين للقتال إلى جانب مجاهدي حزب الله والمقاومة الفلسطينية في حال نشبت الحرب الحاسمة أو تعرض محور المقاومة لهجوم إسرائيلي كبير يستدعي التدخل والمساندة.
ويضيف هؤلاء بأن اليمن يمتلك اليوم العناصر الحاسمة لحسم أي حرب مع إسرائيل من حيث الكثافة العددية للمقاتلين بالنظر إلى أن اليمنيين شعب مقاتل بطبعه، ولديه عقيدة العداء ضد الكيان الصهيوني، والأمر الثاني امتلاك تكنولوجيا عسكرية تمكنه من توجيه ضربات موجعة جدا لتل أبيب، والأمر الثالث الخبرة التي راكمتها قيادته في سني المواجهة مع العدوان والحصار والأساليب القتالية الصهيونية التي استعملت إلى جانب السعوديين والأمريكيين في اليمن وعجزت جميعها عن حسم الحرب طيلة خمس سنوات، رغم الفارق الهائل بين الطرفين في نواح عدة وشن حرب اقتصادية مدمرة.
ويؤكد هؤلاء على أن استدعاء خمس دول غربية لتشارك في مناورات جوية “العلم الأزرق” هي الأضخم تجرى في هذه الأثناء بداخل الكيان منذ إنشائه، تعبر عن تلاشي مفهوم ” إسرائيل القوية وجيشها الذي لا يقهر، وتعكس حالة الخوف لدى قادة العدو والخذلان إثر تساقط جميع الأوراق الدفاعية عن إسرائيل، وأنها أضحت اليوم مطوقة بكرة نار للمفارقة كان الكيان هو من بادر إلى إشعالها في المنطقة بدءا من العراق ومرورا بسوريا وانتهاء باليمن هذا البلد الذي ظل منزويا لعقود في جنوب الجزيرة العربية ولا يكاد يعرف موقعه الدبلوماسيون على الخريطة، والذي أضحى بعد ثورة شعبية في ال21 من سبتمبر 2014م الخطر المتعاظم الذي يحجب النوم عن قادة ” إسرائيل” ويجثم على صدورهم، إنه عدو يمتلك الجرأة والرغبة الشعبية لفعل ما ينادي لأجله، وهو يتميز بالصدق وتتطابق افعاله مع أقواله.
تهديدات نتيناهو بتوجيه ضربات استباقية إلى اليمن في معرض حديثه عن “الخطر الحوثي” لا يعدو حالة من العنترية دخلها الكيان المصطنع بوعد أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق، فماذا يمكن فعله أكثر مما فعله الامريكيون والسعوديون في اليمن لخمس سنوات لم يبقوا فيها حجرا على حجر ولم يتركوا مستشفى أو مدرسة أو طريقا الا واستهدف.
وفي ظل التطورات السريعة والمذهلة في اليمن والشرق الاوسط.. ما إذا كان اليمن المشرف على الانتصار هو البلد الذي سيحمل مقلاع داوود وسيف ذو الفقار لإسقاط وعد بلفور؟ هو سؤال منطقي..
لقد آن لشعوب المنطقة أن تستريح بعد مائة عام من وعد بريطانيا المشين، وعقود من افتقاد الأمن وسفك الدماء في الشرق الأوسط نتيجة لهذا الوعد المشئوم.