كيف يهيئ الذباب الإلكتروني شعوب الخليج للتطبيع مع إسرائيل؟

عندما اجتمع مسؤولون عرب على طاولة واحدة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في العاصمة البولندية وارسو، في مؤتمر دعت إليه إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترمب”، كانت سحابات كثيفة من “الذباب الإلكتروني” تجوب الفضاء الشبكي العربي لدعم التطبيع وإزعاج المعترضين على هرولة عواصم خليجية وعربية إلى خندق الاحتلال الإسرائيلي.

حدث هذا في فبراير/شباط 2019 بعد سنوات اختمرت فيها خبرة الجيوش الإلكترونية، أو “الذباب الإلكتروني” كما يسمّى بسبب “طنينه” المزعج واستعماله تعبيرات كريهة إلى حد مقزز أحيانا. سعت هذه المجموعات المنسقة إلى الاستحواذ على الفضاء الشبكي الخليجي حتى صارت تفرض ما يحلو لها من الوسوم التي تحظى بالصدارة اليومية (تريند) من خلال تكثيف التغريد والبث في “تويتر” وغيره من المنصات الشبكية.

وحسب مراقبين، تفرض هذه الجيوش الإلكترونية أولويات، تبدو في كثير من الأحيان هامشية، على اتجاهات التغريد والبث الشبكي اليومية؛ لصرف اهتمام المجتمعات المحلية وشعوب المنطقة عن القضايا الأساسية والأزمات القائمة في واقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

وإن كانت الكتلة الشبكية الأكبر في الخليج هي في السعودية أساسا، فإن ظاهرة “الذباب الإلكتروني” فيها تتضخم بشكل هائل، علاوة على تجارب رديفة في دول خليجية وعربية أخرى.

كما تنخرط أجهزة إسرائيلية في تقديم مضامين شبكية ينتحل بعضها صفة خليجية وعربية، لدعم اتجاهات التطبيع مع الاحتلال ومحاولات تشويه القضية الفلسطينية وتثبيط المواقف المبدئية للشعوب الخليجية والعربية الداعمة لها.

  • على ماذا يراهن “الذباب الإلكتروني”؟

أحكمت الجيوش الإلكترونية سيطرتها على الفضاء الشبكي السعودي والخليجي، فانتهى العهد الذي كانت فيه مواقع التواصل الاجتماعي متنفسا نسبيا للتعبير عن بعض اتجاهات الرأي العام الشعبية، ولم يَعُد كبار المغرِّدين المستقلِّين عن المنظومة الرسمية طلقاء وإن كانوا بعيدين عن السياسة عموما.

فمع حلول سنة 2017 صارت محتويات مواقع التواصل الاجتماعي الخليجية واقعة إلى حد كبير تحت سيطرة جيوش إلكترونية مرتبطة بالسلطات؛ فظهر تعبير “الذباب الإلكتروني” لوصف هذه الحالة الموجّهة التي تعمل بلا هوادة على مدار الساعة.

تقوم مجموعات “الذباب الإلكتروني” الناشطة في الخليج بجهود دؤوبة لإغراق المحتوى الشبكي العربي ككلّ ويغلب عليها خدمة أولويات العهد السعودي الجديد، حتى أنها لا تتردد في بث مضامين وإيحاءات منافية للقيم والأخلاق إن تطلّب الأمر، مستعملة قاموسا ضخما من الشتائم والتعبيرات النابية في نصوصها وصورها ومقاطعها.

أمّا أولوية الأولويات لدى هذه المجموعات فهي تكريس حالة تقديس الحاكم وتعظيم سياساته، بما في ذلك تهيئة الأذهان للهرولة التطبيعية المتسارعة نحو (إسرائيل) التي تخوضها بعض العواصم الخليجية.

تنتحل فيالق مدفوعي الأجر هذه صفة مغردين أفراد وناشطين شبكيين، وتعمل بخضوع تام لتوجيهات عليا تتلقاها من مشغلِّيها، دون أن تكفّ في ما يتعلق بالتطبيع عن مديح الاحتلال الإسرائيلي وذم الشعب الفلسطيني إلى درجة التهوين من أمر القدس والمسجد الأقصى. بل ويمتد الأمر لتوجيه الشتائم إلى شعوب عربية شقيقة إن اتخذت حكوماتها موقفاً لا يُعجِب “ولي الأمر” أو إن أحرز فريق رياضي عربي فوزا في الملاعب على حساب منتخب الدولة التي تشغِّل هؤلاء في الشبكات.

  • أسلوب الصدمات المتعاقبة

يعمل “الذباب الإلكتروني” الذي يكاد يُسيطر على الفضاء الشبكي الخليجي على إحداث صدمات مقصودة للوعي الجماهيري أحيانا؛ فيدفع بتغريدات مفاجئة ومقاطع مذهلة تكون موجّهة بعناية.

المطلوب من هذه التغريدات والصور والمنشورات والمقاطع الشبكية أن تبدو وكأنها مواقف عفوية أصدرها أفراد، كي تُوحي بحدوث تحول حقيقي في آراء الجمهور والنخب، دون الكشف عن حقيقة أنها مضامين محبوكة وموجّهة.

وعندما أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، نهاية 2018، “القدس عاصمة لـ(إسرائيل)” ونقل سفارة بلاده إليها، أخذ “الذباب الإلكتروني” يدفع بمواد كثيفة على مدار عدّة شهور تتغزّل بالاحتلال الإسرائيلي، حتى كتب بعضهم “أورشليم” بدل القدس!، داعين إلى فتح سفارات سعودية وخليجية فيها.

وظهر أحدهم في مقطع وهو يردِّد النشيد الصهيوني “هاتيكفاه”. فما يريده هؤلاء -حسب مراقبين- هو الإيحاء المضلِّل بوجود حالة شعبية خليجية داعمة للتطبيع أو تحبِّذ التقارب مع الاحتلال الإسرائيلي وتدعم “صفقة القرن” التي يحاول الرئيس الأمريكي فرضها على المنطقة.

((2))

ويشعر الجمهور الخليجي والعربي بالذهول من بعض التغريدات والمقاطع الصادمة التي يتداولها كحالة مُستهجنة، لكنّ هذا النشر الاستنكاري يخدم مقصد “الذباب الإلكتروني” في الواقع؛ فانتشار هذه المواد كفيل بتحقيق الاعتيادية والأُلفة الجماهيرية مع مضامين فجّة كهذه.

وتعتمد هذه المجموعات الموجّهة تكتيكا على المبالغة في حمّى التطبيع، إلى حدّ إقدام بعض “الذباب الإلكتروني” على إعلان الولاء الأعمى للاحتلال والافتتان الساذج به؛ لأجل تكييف الجمهور الخليجي والعربي مع هذه المواد الصادمة بالتدريج حتى تصبح تعبيرات التطبيع أمرا معتادا.

تسعى الجهود الشبكية الموجّهة هذه إلى أن يؤدي هذا الأسلوب إلى تلطيف الانزعاج المتوقع من المواقف التطبيعية الفعلية التي يقوم بها مسؤولون خليجيون وعرب خطوة خطوة؛ فالشعوب يُراد لها أن تعتاد على نبرة التطبيع مع الوقت بما يكسر طابع المفاجأة شيئا فشيئا.

يستعمل “الذباب الإلكتروني” هذا التكتيك دون أن يكفّ عن ممارسة التشهير والتشويه والتحريض بحقّ مناهضي التطبيع، مع مطاردة كل من يقول “لا” للهرولة إلى الاحتلال الإسرائيلي. تقوم سحابات “الذباب” باستهداف هؤلاء المعترضين بمحاولات الإزعاج والترهيب والردع كي لا يعبِّروا عن آرائهم ومواقفهم، وكي لا يجترئ آخرون على إظهار مناهضة التطبيع أيضاً.

  • التطبيع الشبكي

ليست مساعي التطبيع وليدة اللحظة؛ فـ”إسرائيل” ذاتها سبق لها استغلال الفضاء الإعلامي لتوجيه رسائل إلى المحيط العربي كما تجلى مثلا في تجربتها الإذاعية بالعربية “راديو صوت إسرائيل من أورشليم (القدس)”. ومع تطوّر تقنيات الاتصال ودخول حقبة التشبيك الإلكتروني اندفعت جهود التطبيع، كما هو متوقع، إلى الفضاء الشبكي وتطبيقات التواصل، كما تقدمت في مجال المحتوى الإعلامي من خلال المتحدثين والمواد المتعددة.

ثم نشأت عبر شبكات التواصل الاجتماعي حالة غير مسبوقة من التعامل المباشر بين أوساط من الجمهور العربي والمسؤولين الإسرائيليين إلى حدّ المعايشة الافتراضية بما يتخلّلها من تجاذبات ومحادثات وتعليقات متبادلة ونسج أواصر أحيانا.

ومن شواهد التطبيع الشبكي حضور متحدّثي (إسرائيل) بالعربية في منصات التواصل الاجتماعي، كما يتجلى في حالة الناطق باسم الجيش الإسرائيلي “أفيخاي أدرعي” أو المعلِّق “إيدي كوهين” الذي يتمّ تقديمه على أنه “أستاذ” في جامعة بار إيلان في تل أبيب.

وبغضّ النظر عن القدرة الإقناعية التي يحوزها هؤلاء المتحدثون فإنهم صاروا من “المؤثرين” ضمن المشهد الشبكي العربي خاصة بسبب أساليبهم في الظهور والتعبير التي تثير التندّر والاستغراب في كثير من الأحيان.

((3))

كما يتزايد في الفضاء الشبكي العربي تداول مقاطع ومواد ووصلات دعائية من إنتاج جهات رسمية إسرائيلية، غالباً في سياق استهجانها أو التنديد بها. فالجمهور العربي يقوم بنفسه بتدوير محتوى منتج إسرائيليا، مثل مقاطع “التهنئة بالمناسبات الإسلامية” التي يقوم بعض العرب بتداولها لاعتبارها مواد غرائبية واستثنائية ذات طابع طريف أو مُستهجَن.

وظهرت مزيد من الصفحات والحسابات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الأجهزة الذكية مكرّسة للتطبيع الثقافي، مثلا بذريعة تعليم اللغة العبرية. ومن خصوصيات هذه الصفحات والحسابات أنها تستقطب بعضا من دارسي اللغة العبرية والمهتمين بها عربيا، بما يضعهم في صميم الحالة التطبيعية ويستعملهم في إذكاء هذه الصفحات والحسابات وإنعاشها مع تقديم الاحتلال من نافذة ثقافية تبدو ودِّية للغاية.

وعلى الجانب الآخر يقوم غلاة التطبيع من دول خليجية وعربية، بإسداء خدمات دعائية لـ”إسرائيل” عبر مساهماتهم في الشبكات وبعض المنصّات الإعلامية الإسرائيلية والخليجية، وعادة ما يلقون دعما من “الذباب الإلكتروني” الذي يجود عليهم بالنشر الواسع والإعجابات.

  • وجبات للهوس الجماهيري

يتحرّك “الذباب الإلكتروني” مع مضامين مجهّزة له مسبقا بهدف تشويه رافضي التطبيع، مثلا باتهامهم بالارتباط بإيران، وكيْل الشتائم لهم بالتبعية لقطر وتركيا و”الإخوان المسلمين” وما إلى ذلك. فالتشكيك بولاء كل من يعترض على الهرولة نحو (إسرائيل) ظل أسلوبا تقليديا للتشويه ولكبح مساعي مقاومة التطبيع والتشكيك.

يقوم غلاة التطبيع ومجموعات “الذباب الإلكتروني” بترويج مضامين نمطية متعددة، سطحية وساذجة ومتناقضة فيما بينها أيضا، في خدمة دعاية التطبيع. تكسب هذه المضامين فرصة متزايدة للتأثير على قناعات الأجيال مع طمس المضامين التعليمية المتعلقة بالقضية الفلسطينية من العديد من المناهج الخليجية والعربية.

يحرص “الذباب الإلكتروني” على الاحتجاج المضلِّل بآيات من القرآن الكريم، ولا تنفكّ حملاته المنسّقة عن مهاجمة الشعب الفلسطيني وتخوينه لأجل تبرير التطبيع بناءً على ذلك. ومن المألوف ترديد عبارات ساذجة مثل أنّ “الفلسطينيين باعوا أرضهم!”. ويجري في هذا السياق تحميل الشعب الفلسطيني مسؤولية الاحتلال الواقع عليه!.

كما يحرص “الذباب الإلكتروني” على افتعال نعرات وضغائن مع الشعب الفلسطيني؛ بهدف تطويق حالة التعاطف مع القضية الفلسطينية وعزلها، ولإظهار الإسرائيليين في صورة الأصدقاء الأوفياء “الذين ما آذونا بشيء” كما يدّعي بعضهم!.

يوماً بعد يوم تتضخّم كثافة “الذباب الإلكتروني” المكلّف بإغراق الشبكات الخليجية والعربية بمواد دعائية ساذجة، مع إبراز أولويّات صراعية مستجدّة وتقديمها على قضية فلسطين، وتلفيق فكرة أنّ “عدوّ عدوي صديقي!”، والصديق في هذه الحالة هو من يحتلّ القدس وفلسطين ببساطة.

“الوجه القبيح” الذي أظهر به “الذباب” بلدانه وخصوصاً السعودية، بدا تقهقره للعالم أجمع ومتابعي وسائل التوصل الاجتماعي، مع تورط رجله الأول سعود القحطاني، في جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي بقنصلية بلاده في إسطنبول اكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث اختفى الرجل عن الأنظار وغاب معه معظم “ذبابه”، الذين تأثروا أيضاً بقوانين تبناها موقع “تويتر” للحد من الحسابات الوهمية، بعد افتضاح أمرهم وكشف اختراق السعودية حسابات ناشطين عبر موظف طُرد من الشركة عام 2015.

“الخليج الجديد”
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى