بوصلةٌ تشيرُ إلى القدس
حلمي الكمالي
بعدَ مرورِ مائة عام على إجازةِ ملوكِ النقرس لتمرير وعد بلفور واحتلال فلسطين، تقودُ إسرائيلُ اليومَ وكلاءَها الخائبين كالأنعام لاحتلال أراضٍ عربيةٍ جديدةٍ.
إنَّ مشهدَ الخيانة المخزي الذي جسّده القادةُ العرب في المزاد العلني لبيع ما تبقى من فلسطين في المنامة، وهم صاغرون مذلولون لحديث أحد مراهقي البيت الأبيض وصهير زعيمه “جاريد كوشنير” الذي يظهر كعراب بلفور الجديد، قد لا يثير الدهشة كثيراً، فهذه ليست المرة الأولى التي يظهر فيها قادةُ العرب كأرجوزات مسيَّرة تعملُ خارجَ مصلحتِها الوطنية وحاجاتها الحقيقية، لكن الأمرَ الذي يتضحُ جلياً هو أن إسرائيلَ كانت تقودُ عملاءَها إلى مقصلة الوداع الأخيرة لتقسيمٍ جديدٍ لدولٍ عميلة يقعد مثل هؤلاء المسوخ على سدة حكمها.
ولا عجبَ أن يجتمعَ القتلةُ واللصوصُ لبيع فلسطين للمرة الألف!
فهؤلاء هم أنفسهم من باعوا دمشق وبغداد وبيروت وصنعاءَ، ورقصوا جَميعاً على أشلاءِ المواطن العربي وأحلامِه البريئة طيلة العقود الماضية.
هؤلاءِ المسوخُ المأجورون هم الصورة القبيحة للمشروع الأمريكي القذر كامتداد صريحٍ يحاولُ أن يستفيقَ بأبشع مؤامراته وإنتاج سايس بيكو جديد بنكهة إسرائيلية خالصة هذه المرة.
خلالَ مائة عام جلبت هذه الأرجوزات الأُمَمية الخزيَ والعارَ لأكثرَ من نصف مليار عربي ومسلم، وهذه مدةٌ كافيةٌ؛ لتستفيق شعوبنا المقهورة؛ لململةِ صفوفها لمواجهة العدو الواحد الذي يتهدد وجودنا جَميعاً، دون صرف النظر عن الأنظمة العميلة التي تنتظر من يجتثها ويرميها في مزبلة التأريخ.
إنَّ مواجهةَ هذه الأنظمة المسعورة أمرٌ حتمي ومصيري تقتضيه ضرورةُ اللحظة الوطنية الآنية، وبدلاً عن العويل يمكن وضع “صفقة القرن” كتنبيهٍ إلهي للضمائر العربية الخامدة التي تقفُ على مسافة بعيدةٍ من مظلومياتها وهُويتها القومية والثقافية وفطرتها الدينية السوية.
في ظل وجود قوى وطنية تعي جيداً أبعادَ ومرامي المؤامرة الغربية في المنطقة يمكن القول بأن لا خوفَ على القدس من صفقة القرن وأن أحلام العدو بتجزئة بلدان عربية أُخْـــرَى ستظل أحلاماً وردية.
إذ أن ما تقدّمُه هذه القوى وشعوبُها الحرةُ في اليمن والعراق وسوريا وغيرها من تضحياتٍ جسيمةٍ أمام مشاريع الهيمنة الأمريكية هي ضمانُ أمان للانتصار للقضية الفلسطينية.
وحتى هذه النقطة يمكنُ التعريجُ على جوهرِ الصراع العربي الإسرائيلي الأزلي وأبعاده حاضراً ومستقبلاً، فالمعركةُ التي يخوضُها الشعبُ اليمني اليومَ في مواجهة العدوان هي جزءٌ من المواجهة المفتوحة الكبرى التي يخوضُها أحرارُ اليمن ضد المؤامرة الكونية التي تقودُها إسرائيلُ ومن خلفها الولاياتُ المتحدة الأمريكية وبريطانيا لتمزيقِ وحدةِ التراب العربي واجتثاث القوى الوطنية المناهضة لوجود كيان صهيوني مغتصَبٍ.
علاوة على ذلك فإن هذه المعركةَ هي معركةٌ للدفاع عن القيم والمبادئ وتصحيح مسار الشعوب تجاه قضاياها العادلة، فالقضايا العادلة تحَرّك إرادة الشعوب الحرة نحو الانتصار لها، وتلك مهمة الثورات الوطنية الحقيقية دائماً، ولعل ثورة 21 سبتمبر 2014 هي النموذجُ الصارخ والحي للصحوة الشعبيّة التي انتصرت للقيم والمبادئ الدينية والإنسانية وصحّحت المفاهيمَ الخاطئة.
ويبدو أن اندلاعَ ثورة تسيرُ على هذا النهج قد أربك حساباتِ العدو الصهيوني الذي هرع على لسان رئيس وزرائه نتنياهو عقب اندلاع الثورة بالقول بأن ما حدث في صنعاء يشكّلُ خطراً حقيقياً على تل أبيب.
الإسرائيليون يدركون جيداً أن الطلقةَ الأولى التي وجّهتها بندقية الثورة اليمنية المباركة لم تكن لتصيبَ وكلاءَ الوصاية في صنعاءَ لو لم تكن باتجاه القدس في المقام الأول.
إننا نخوض حرباً مفتوحةً أمام الرأسمالية المتغطرسة وسماسرة السوق ومُلّاك الرساميل الغربية وقوّادي النفط، هذا اللوبي الصهيوني الذي حكم العالمَ بقوانينه الخاصة لعقودٍ طويلة يجبُ أن لا يكون دخيلاً على الشعوب الحرة مرة أُخْـــرَى إذَا ما تمسكنا بهذه النماذج الثورية الحقة التي تحكم على مشاريع الهيمنة والتمزيق بالهلاك المحتوم.
فلسطين عربيةُ الهوى وإسلامية المنشأ والقدس عاصمتها الأبدية، هذه الحقيقة الكبرى التي يجب أن يدركها العالم أجمع وأن جميع محاولات الأعداء محوَ هذه الحقيقة سيكون عليهم أولاً مواجهةُ الذاكرة العربية والإسلامية والتأريخ والجغرافيا معاً ولقرون لاحقة أيضاً.
إذاً لا حلولَ للانتصار للقضية الجامعة للشعوب العربية سوى بالوقوف جنباً إلى جنب مع الواقع الجديد الذي تفرضُه بندقيةُ رجالِ الرجال في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغيره، وما سواها فلتذهَبْ إلى الجحيم، وهنا يمكن أن نشفيَ صدورَنا جَميعاً لنقفَ عند سيمفونية شاعرنا الكبير مظفَّر النواب في قصيدته الخالدة:
أيها الجُنْدُ..
بوصلةٌ لا تُشيرُ إلى القدس مشبوهةٌ..
حطموها على قحف أصحابها..