الدينُ والمجازفة
مقالات | 12 مايو | مأرب برس :
بقلم / عبدالملك العجري
فكرةُ الجزاء والثواب والعقاب في الخطاب القُـــرْآني ليست إجراءاتٍ مؤجلةً يتم تنفيذُها في مرحلة أُخرى.
الخطابُ القُـــرْآني ربط الجهدَ الإنْسَاني بمستويين أساسيين من الجزاء عاجلٍ وآجلٍ..، ومجموعُ القيم التي حث عليه الدينُ مرتبطةٌ ارتباطاً مباشراً بمعيشة الإنْسَان في هذه الحياة مرتبطة بنتائجها على سعادة الإنْسَان وشقاء وبوس حياته.
الأسلوب القُـــرْآني لم يكلف المؤمنين المجازفةَ اتكالاً على وعدٍ مؤكدٍ بالحصول على مكافأة تفوق الخيال في عالمٍ آخر يغريهم بها مقابلَ التزامهم بقيم الدين وجهودهم التي يبذلونها في تنفيذها فحسب.
القارئُ يلاحظُ أن الأسلوبَ القُـــرْآني يغريهم برغدِ العيش والرفاه والحصول على منافعَ دنيويةٍ كثيرة إذَا هم استقاموا على الطريقة ومثلُه السلوكُ السيء تكونُ له نتائجُ عاجلةٌ تتمثل بضيقِ المعيشةِ والبؤس والمذلة والمهانة في حياته.
المجتمعُ الذي يعيش حياةً بائسةً ليس المجتمعَ المثالي، والمجتمع غير العادل المجتمع الضعيف المجتمع المفكك ليس النموذجَ الجيدَ، والإنْسَانُ الذي يتنازلُ عن حقوقه الأساسية ليس مؤمناً جيداً.
كان بعضُ العلماء يقولُ: إن نعيم الجنة تفضل من الله لا جزاءاً مستحقاً على أعماله ذلك؛ لأَنَّها ضوابطُ وقيمٌ مرتبطةٌ بانتظام حياة الإنْسَان وجهد إنْسَاني مسؤول لتحقيق مجتمع إنْسَاني عادل وحُـــــــرٍّ وكريم.
ليست هناك أية مجازفة كما يقول فيلسوفنا أبو العلاء المعري:
قالَ المَنجّمُ والطّبيبُ كِلاهما: لا تُحشَرُ الأجسادُ، قلتُ: إليكما
إن صَحّ قولُكما، فلستُ بخاسرٍ، أَو صَحّ قولي، فالخَسارُ عليكما
طَهّرْتُ ثَوْبي للصّلاةِ، وقبلَهُ طُهرٌ، فأينَ الطّهرُ من جسديكما؟
وذكرتُ رَبّي، في الضّمائرِ، مؤنساً خَلَدي بذاكَ، فأوحِشا خَلَديكما
وبكرْتُ في البَردينِ أبغي رَحمَةً منهُ، ولا تُرَعانِ في بُرْديكما
إنْ لم تَعُدْ بيَدي مَنافعُ بالذي آتي، فهلْ من عائدٍ بيَدَيكما؟
بُرْدُ التّقيّ، وإن تَهَلّلَ نَسجُه، خيرٌ بعلمِ اللَّهِ من بُرديكما
الفيلسوف الفرنسي باسكال أيضاً كان يرى أن من المعقول أن يراهنَ الإنْسَانُ بحياته على أن الله موجود؛ لأَنَّه إن أصاب فربح لا محدود، وإن لم يصب، فخسارة محدودة.
المجازفةُ هي في التوظيف الديني الذي روّج له نظامُ الاستبداد والفساد لصرف الناس عن المطالبة بحقوقهم وتبرير العجز والهروب من تحمّل المسؤولية واستخدامها كحيلة تعويضية عن حالة البوس والشقاء كقدرٍ على المؤمن والحقيقة أنه قدر فرضته أنظمة الفساد والاستبداد.
المجازفةُ الحقيقيةُ هي هذا التوظيفِ الدراويشي لفكرة الجزاء يريدُ أن يجعلَ الجنةَ عوضَ الإخلال بالعدالة، يريدون أن ينعموا بالثراء والفاحش ورغد العيش وينهبوا حقوق الرعية ويحيلوا حقوقهم في الحياة الكريمة إلى نعيم الجنة.
يستأثرون بالمال ويسيئون توزيعَه ويبيحون لأنفسهم تجاوُزَ كُــــلّ القيم وانتهاك كُــــلّ الحقوق ويطالبون من الأُمَّــة السمعَ والطاعة والتماسَ التعويضات في الجنة، هذه هي المجازفةُ الحقيقية والخسارة الحقيقية، نكَدٌ في الحياة ولم يبذل أي جهد يضمن له الفوزَ بالنعيم في الآخرة.