كيف تكسر العدوان؟
مقالات | 25 مارس | مأرب برس :
بقلم / عامر محسن
تذكّرت هذا الكلام حين اختار صديق يساريّ، هذه الأيام تحديداً، ليستذكر تجربة اليمن الاشتراكي، وكيف أن «قوى الرجعية» تكالبت عليها، وواجهت وحدها خصوماً شرسين. كما في حالة إيران، فإن المقارنة لا تصحّ بين الماضي واليوم. «اليمن الديمقراطي» كان خلفه الاتحاد السوفياتي، وخطّ دعم استراتيجي، وسيل من الأسلحة والمساعدات، بل إن اليمن الجنوبي، خاصة في سنواته الأولى، كان يشعر بالثقة عسكرياً إلى درجة أنه هو من كان يبادر بالهجوم على اليمن الشمالي وغزوه، وكان يردّ على القذيفة السعودية بقذيفتين. الأهمّ، طبعاً، أن اليمن الديمقراطي لم يتعرّض لأربع سنوات من الحرب المستمرة، وأساطيل جوية من كلّ العالم تقصفه، وتحالف جيوش ومرتزقة بمئات الآلاف ضدّه. ما هو أهمّ، أن تجربة اليمن الجنوبي، رغم الفارق في مستوى التحدّي، لم تتمكن من الصمود والاستمرار.
المفارقة أن الحرب السعودية ـــ الأميركية على اليمن، لو نظرت إلى أصلها وبداياتها، كان من المفترض أن تكون مثالاً على ما يسمّيه سلافوي جيجك «العنف الاعتيادي المقبول». يقول جيجك في محاضرة له إن هناك قدراً من العنف يجري في العالم بشكل «اعتيادي»، وسط قبول ضمني في الغرب بأنه «ضروري» أو لا يمكن تلافيه. حتى الناشط الغربي «الأخلاقي» لن يفتعل مشكلة كبيرة مع حكومته إن شاركت في حرب ظالمة ضدّ خصم ضعيف في قارة أخرى. كلّ ما يريده ـــ بحسب جيجك ـــ أن تنقضي هذه الحرب بسرعة، وأن تختفي من أمام ناظريه قبل أن تطيل في إزعاجه. كان من المفترض أن يجتمع الكلّ على اليمنيين ويكسروهم، ويبدأ طورٌ سياسي جديد. وهنا، يدخل الناشط الغربي (والعربي) في النقاش، وينظّر في العملية السياسية (ويتأسّى، بالطبع، على الحرب وضحاياها).
نحن هنا لا نتكلّم على مدينة أو منطقة تتعرّض للقصف أو الحصار، أو على ضحايا حرب داخلية «مؤسفة». هنا، بلدٌ بأكمله ـــ سكانه أكثر عدداً من مواطني السعودية والدول التي تقصفه مجتمعةً ـــ يقع تحت المعاناة والحرب الشرسة (سواء في الجزء المحاصر من اليمن الذي يقاوم، أو الجزء الذي يقع تحت الاحتلال). ومن يقود الحرب هنا هو الدول ذاتها التي حوّلت الغزو العراقي للكويت إلى «جريمة أصلية»، وأمضت سنوات تجرّم وتخوّن وتكفّر كلّ من رفض يومها تدمير العراق (يعتدون على الجيران، لا يحترمون السيادة والحدود… إلخ). هم أنفسهم من يشنّ اليوم أسوأ عدوان يقوم به بلدٌ عربي على بلد عربي آخر، منذ استقلال دولنا الحديثة (وهذا العدوان قد جاء بتغطية ومباركة من جامعة الدول العربية، التي شرّعت أيضاً الحرب الأميركية على العراق عام 1990. من يجرؤ، بعد اليوم، على الدفاع عن هذه المنظمة أو عن سبب وجودها؟).هزيمة غير معلنة
بعد سنوات أربع، لم تكن حرب اليمن جولة من «العنف الاعتيادي»، تمضي كما يريد الأقوياء بسرعة وصمت: صنعاء لا تزال بعيدة، والجيش اليمني و«أنصار الله» هم من يقترب من مأرب. الحرب في اليمن انتهت بالنسبة إلى طرف واحد، هو طرف العدوان السعودي ـــ الإماراتي. هم وصلوا بوضوح إلى قناعة بأنهم لن ينجزوا أي هدف عسكري في اليمن، ولو كان رمزياً (فضلاً عن السيطرة على البلد من جديد)، وينصبّ اهتمامهم منذ فترة على طريقٍ سياسي للخروج من الحرب. بهذا المعنى، إن كلّ من يُقتل في حملات العدو، منذ زمن، يموت حرفياً بلا سبب، وكـ«فرق عملة»، ولتدعيم موقف الغزو في المفاوضات. في اليمن، كما نعرف، توالت عدة أصناف من الجيوش والمرتزقة خلال السنين الماضية، بدءاً باستحضار مرتزقة «محترفين» من دول أميركا الجنوبية، فهموا بسرعة أن المكان لا يناسبهم، وأنْ لا مال يستحق الموت في جبال اليمن، فانسحبوا بسرعة، وصولاً إلى تجنيد الأجانب وكلّ من يقبل بحمل سلاحٍ مقابل راتب ليكونوا حاجزاً بين اليمنيين والجيش السعودي. كل عملية جديدة للغزاة تخرج، بعدها مباشرة، تسجيلاتٌ لعشرات عربات العدو وهي تُفجّر وتحترق. في الحقيقة، أصبح الشعور تجاه هؤلاء المساكين يقترب من الشفقة، وليس الكراهية أو العدائية، حين ترى كيف أصبح السعوديون يشحنونهم في عربات مدنية غير مصفّحة، ليكونوا نهباً سهلاً لنيران اليمنيين. منذ أسبوع فقط، قتل الطيران السعودي العشرات من هؤلاء بالخطأ، ومرّ الأمر كأنه لم يحدث، وكأن القتلى ليسوا «حلفاء»، وليس لهم أهلٌ وحرمة.
لا مثال كاليمن عن الفارق بين الواقع كما يقدّمه الإعلام المهيمن وبين التاريخ الحقيقي الذي يصنعه الناس. حجم الصمود والصبر والتضامن الذي أبداه اليمنيون يكفي لصنع ملحمة، ولكن لا يعرف بها إلا أهلها وقلّةٌ معهم. كمية التسجيلات التي تظهر خسائر العدوان وبأس اليمنيين ـــ ببساطتها ووضوحها ومن دون حاجة إلى تعليق ـــ كفيلةٌ بإحراز النصر في عشر حروب إعلامية (بالمقابل، التسجيلات «المنافسة» التي تصوّر قوات الغزو وأعوانه على الأرض لا تزال تثير الضحك والاستغراب أكثر من الإعجاب والهيبة). اليمنيون، في وجه تحدّي الغزاة، فعلوا كلّ شيء: دمروا بوارجهم وأسقطوا طائراتهم وهزموا زحوفهم. ضربوا قواعدهم الحساسة بشكل موجع، قتلوا قياداتهم، ونفذوا عمليات فريدة، مثل اغتيال قيادات عسكرية بطائرات مسيّرة انتحارية، أو ضرب بوارج بزوارق مفخّخة ومسيّرة عن بعد، تجري للمرة الأولى في التاريخ العسكري. طوّروا أسلحة وفنون قتال ووسائط لضرب العدو في دياره. كلّ هذا وهم يقبعون بين الحصار والجوع وتآمر الظلّام. أنت، حين تكون ضدّ الهيمنة، من المستحيل أن تنتصر في «حرب إعلامية»، لكن ما يبقى للتاريخ هو ما يجري على الأرض.
حين تنظر إلى الماضي السياسي القريب في بلادنا، وإلى الأشكال الكثيرة من النضال التي خاضتها الشعوب، فإن هذا يجعلك تتساءل: ما المعنى الحقيقي للثورة والثورية؟ أن تسير في تظاهرة؟ أن تشارك في مؤتمرات و«ورش عمل»؟ أن تكتب شيئاً جريئاً؟ أم أن تغيّر التاريخ «من تحت»، وتكون جزءاً من حركة شعبية تناضل وتقاسي وتقدّم التضحية الكبرى، وأن تحطّم ـــ بالفعل ـــ الأقلية المستحكمة في مجتمعك وتقلبه رأساً على عقب؟ على سيرة «الحركة الشعبية»، ما زلنا اليوم ـــ حيث يجري الكلام على «الربيع العربي» بصيغة الماضي ـــ نشهد في اليمن تظاهرات يشارك فيها مئات الألوف، وكيف تصمد لسنوات في حرب كهذه من غير دعم شعبي كبير؟ (لماذا لا يقود خصوم «أنصار الله»، بالمناسبة، تظاهرات مماثلة؟). هذه التظاهرات تجد فيها دوماً أعلام فلسطين بارزة. وحين يرفع اليمنيون المحاصرون شعار فلسطين، فأنت تعرف أنهم لا يفعلون ذلك إلّا لأنهم صادقون، ولأنهم يرون أنفسهم في الفلسطينيين. فلا فائدة «إعلامية» أو «تكتيكية» ترتجى هنا، والإعلام العربي يقف كلّه ضدّك ويخوّنك ويكفّرك، والفصيلان السياسيان الأساسيان في فلسطين قد خرجا علناً، يوم إطلاق «عاصفة الإجرام»، ليعلنا دعمهما للغزو ووقوفهما ضدّ الشعب اليمني، وهو في أصعب لحظاته (لم يكن في وسعهما، مثلاً، أن يصمتا).
حين ينتقم الفقير
ما جرى على اليمن يشبه ما يجري في فلسطين، وما جرى على لبنان عام 2006، وما كان يُعَدّ للعراق وسورية. ولهذا السبب ـــ ربما ـــ هناك الكثير من العرب الذين يشعرون بوحدة حال مع اليمنيين، ويفهمون مصابهم، ويعرفون معنى أن تجد نفسك وحيداً ضعيفاً في مواجهة القوة. لهذا السبب نسخر حين يجري «اتّهام» بعض اللبنانيين بمساعدة اليمنيين في حربهم، هل هناك هدف أفضل من هذا وأنبل؟ ولهذا السبب أيضاً، لا معنى لخطاب «استدرار التعاطف» والتذكير بالضحايا (ولا أحد فعلياً يحصي ضحايا حرب اليمن منذ سنوات). هناك عربٌ بيننا يشعرون مع اليمنيين ويتألّمون معهم ويحفظون تضحياتهم في قلوبهم، فهم ليسوا في حاجة إلى التذكير. أمّا من يتجاهلك أو يعاديك أو لا يكترث، فواجبنا ليس أن نعرض صور قتلانا عليهم علّهم «يعيروننا» موقفاً مبهماً (كأن يدين «الغارات السعودية على اليمن»، كلّ فينة وأخرى، بعد أن يتلفّت من حوله ويتأكّد أن هذا «التصريح» لن يكلّفه شيئاً. ولو تصالحت السعودية مع قطر غداً، لعاد أكثرهم إلى تأييد الغزو). واجبنا تجاه الضحايا، ليس أن ننشر صورهم، بل أن ندفنهم بكرامة، وأن ننتقم لهم.
قلنا إن الحرب، في بداية عامها الخامس، قد انتهت عسكرياً بالنسبة إلى الطرف الخليجي، ولكنها لم تنتهِ بالنسبة إلى اليمنيين، والأشهر المقبلة ستثبت للغزاة أن حرباً أرادوها «ساحقة وسريعة» تنتهي خلال أسابيع، ستكون ورطة سيدفعون كلفتها لعقود قادمة. لمن كان يتساءل عن سبب تكديس الأنظمة الخليجية للسلاح، ومعنى مئات الطائرات الأميركية التي يركنونها في مطاراتهم، فإن حرب اليمن قدّمت إليثنا الإجابة: هذه الترسانة كلّها سيستخدمونها ضدّنا، وبالتشارك مع أميركا وإسرائيل، ولولا دحر المقاتلين اليمنيين لهم لكانت هذه الطائرات تقصف في مكان عربي آخر اليوم. اليمنيون، بالمناسبة، لا يستمعون في القرارات الأساسية إلى أحد، لا إلى الإيرانيين ولا إلى اللبنانيين. وهم، حين يقرّرون، يفعلون من دون اعتبار لتحذير أو نصيحة. فلا أحد غيرهم يعرف ماذا يخطّطون ضدّ من استباح أرضهم، وكيف يرون آخر الطريق معه. كما يقول تشارلز تيللي، فإن نشوء الدول الحقيقية يكون في أتون الحرب، والحدود الحقيقية يرسمها السلاح. واليمنيون ـــ رغم الألم والتضحيات ـــ قد بنوا أساساً جديداً وصلباً لمستقبلهم، سيكون له أثرٌ علينا جميعاً. وإن هُزموا، تكون البداية لسقوط كلّ صوت ثائر في هذا الإقليم.
مثلما أرّخ اليمن لحربه عبر المعارك والحملات والأحداث المفصلية، فالحرب أُرِّخَت أيضاً عبر «الزوامل» (قصيدة الغناء الشعبية في اليمن). والعديد من الشعراء الذين ألّفوا هذه القصائد الحماسية يجعلون أي «مثقف عضوي» يشعر بالخجل من نفسه. أكثرهم قاتل في الجبهات، وبعضهم استشهد. وفي أحد هذه الزوامل الشهيرة، يرسل المقاتلون رسالة واضحة إلى المعتدي، حين يقسمون «بربّ العرش، خلّاق السما» أن جيش الطاغوت السعودي سيلاقي على أيديهم حتفه. والأيام بيننا، والسيف أصدق إنباءً.