مجزرة السبت الأسود
لم تكن لديَّ الرغبةُ في الذهاب إلى القاعة الكبرى لأداء العزاء في وفاة والد وزير الداخلية وقتها اللواء جلال الرويشان لكن الذي حدث أنني بعد أن أكملت وجبة الغداء في ذلك اليوم تلقيت اتصالاً بضرورة الذهاب إلى القاعة الكبرى للتنسيق وتوثيق وصول رئيس المجلس السياسيّ الأعلى الرئيس الشهيد / صالح الصمّاد (رحمه الله) بحكم عملي وقتها في السكرتارية الخَاصَّــة به وقد كان ذلك الاتصالُ تقريباً عند الساعة الثانية والنصف ظهراً، وبالفعل تحَـرُّكت أنا وأحد الزملاء إلى ذلك المكان وعند وصولنا تقريباً الساعة الثالثة عصراً، كان المكان مكتظا بالمعزين واضطررنا إلى إيقاف سيارتنا في منطقة بعيدة عن القاعة من كثرة وازدحام سيارات الوافدين من كُـلّ محافظات الجمهورية اليمنية لتقديم واجب العزاء وبعد دخولنا القاعة وجدنا القاعة مكتظة بالناس بشكل لم أشاهده من قبل عندها لم أشعر بالاطمئنان وكانت دقات قلبي تخفُقُ بقُــوَّة كإنذار بكارثة ستقع في هذا المكان بعد دقائق.
ومن شِدِّةِ وكثرة التوافد، اضطر القائمون على مراسيم العزاء بالمناداة على الضيوف القدامى بإفساح المجال للضيوف الجُدُد، عندها تحدثت مع زميلي بأنه لو وصل الرئيس فالمكان مزدحم جِــدًّا ولم يعد يوجد مكان مناسب في القاعة لجلوسه فيه وقتها كنتُ أتأمل وجوهَ الحاضرين وكأن الموت يحدق بهم ويحلق من فوقهم عبر طائرات العدوان وهممتُ لأَكْثَــرَ من مرة أن أخرج الكاميرا التي كنت أحملها معي والتي كانت مخصصة لتوثيق تحَـرُّكات الرئيس الشهيد / صالح الصمّاد وأوثق بعض المشاهد داخل القاعة إلا أنني لعدة مرات كنتُ أعيد الكاميرة بعد أن أشعر بإحساس غريب يمنعني من تشغيلها أنه نفس الإحساس الذي أشعر به الآن وأنا أكتب هذه الكلمات التي يبدو أنها نبشت الذاكرة وأعادتني لأعيش تلك اللحظات مجدّداً بعد عامين من مرورها.
ربما يكون ذلك الإحساس هو من دفع بنا للتواصل مع المسؤول وإبلاغه بتأجيل زيارة الرئيس لأداء واجب العزاء ليوم آخر وقبل وقوع الكارثة بدقائقَ قليلة جِــدًّا أبلغنا بتأجيل زيارة الرئيس وبأنه سيكمل برنامجه ولقاءاته حسب جدول أعماله وتم إبلاغنا بمغادرة القاعة؛ كون الرئيس لن يحضر وبالفعل قرّرنا المغادرة وعند وصولنا إلى بوابة القاعة الرئيسية طلب منا أفرادُ الحزام الأمني العودة للخروج من البوابة الأُخْــرَى؛ بسببِ كثافة الوافدين، مما يسبب التدافع وما هي إلا لحظات قطعنا فيها القاعة باتجاه البوابة الأُخْــرَى وكأنني أتذكر تلك الخطوات جيداً وعددها بالخطوة وأنا أتأمل القاعة في لحظتها الأخيرة وأنظر إلى وجوه الحاضرين في لحظات تشبه التصوير السينمائي البطيء وخصوصاً آخر اللقطات التي سجلتها عيناي وأنا أمر أنا وزميلي من جوار اللواء / عبدالقادر هلال أمين العاصمة وقتها وهو واقفٌ يصافح الناس الذين تجمعوا حوله للسلام عليه، ومع هذه اللقطات ما زال صوتُ ذلك المنشد يطرق أذنَيَّ التي انفجرت طبلاتها من شدة الانفجار إلا أنها ما زالت تحتفظ بصوت المنشد جيداً وبالكلمات الأخيرة التي كان يقولها لي زميلي قبل أن يتوقف كُـلّ شيء فجأةً وكأنما شيءٌ رهيبٌ تدخل لإيقاف تسجيل تلك اللحظات صاحبه صوت غريب، أعتقد بأنني لن أنساه ما حييت أثناء نزول الصاروخ وانفجاره بعدها أحسستُ بضغط رهيب جِــدًّا دفع بالناس في كُـلّ اتجاه من شدته وقد كنت وقتها أحاول التماسك قدر الإمْكَان والثبات في مكاني ولم أكن أشعُرُ بشيء سوى ذلك الضغط وأنا أشاهد درج السلالم إلى بدروم القاعة تنهار بمن كان عليها واجد نفسي معلقاً في الهواء للحظات في الساتر الحديدي الخاص بالدرج لأقع بعدها إلى بدروم القاعة بعدها لفَّ الظلامُ والغبارُ الكثيفُ المكانَ إلى درجة أنني لم أعد أشاهد أي شيء في نفس الأثناء عم المكان صمت رهيب وهدوء غريب قبل أن ينفجر المكان بالصياح والأنين وطلب النجدة والمساعدة عندها جلست للحظات أحاول أن أجمع الخيوط لتفكيري لعلي أفهم ما الذي حدث وبعد تفكير سريع للحظات أدركت أن طيران العدوان قصف القاعة.
وأولُ ما تبادر إلى ذهني هو أنه سيكرّر الضربة كالعادة عندها قرّرت مغادرة القاعة ولكني تذكرت زميلي وناديت عليه بأعلى صوتي ولكنه لم يجبني وبعدها حاولت النهوض ولكنني لم أستطع أن أقف؛ لأنَّ قدمَيَّ الاثنتين أصيبتا إصابات بالغة ولم تستطع حملي عندها قرّرت الزحف بأي طريق للخروج من القاعة وتأملت حولي علّي أشاهد مخرجاً فشاهدت بصيصَ نور من أمامي يخترف العتمة والغبار الذي لف المكان لأقرّر الزحف نحو ذلك الضوء الذي كان عبارة عن نافذة لإحدى الغرف في بدروم القاعة وبعد جهد وصلت إلى تلك النافذة وأنا أنزف بشدة وبعد أن استجمعت قواي استطعت أن أخرج من تلك النافذة وأنا أشعر بالإنهاك الشديد وأسندتُّ ظهري إلى جدار القاعة وجلست استريح حتى يأتي من يسعفني وما هي إلا لحظات حتى دوى انفجار آخر داخل القاعة ليعلن الغارة الثانية والتي اشعلت النيران في أثاث القاعة وفي السيارات التي كانت موجودةً في بدروم القاعة عندها بدأت أبحثُ عن من يساعدني ولكن دون جدوى لم يلتفت لي أحد، فالجميع كان يهرب في كُـلّ اتجاه عندها قرّرت الاتصال بزملائي ليأتوا لإسعافي إلا أنني لم أجد تلفوني وعلمت أنه وقع مني أثناء الانفجار عندها قرّرت أن أخوض حربَ البقاء وأصارع الموت كي أنجوَ رغم شعوري بالدوار من شدة النزيف إلا أنني قرّرت الزحف نحو البوابة الخارجية وأثناء زحفي كنت أشاهد الاشلاء والدماء والجثث مناثرة في كُـلّ مكان.
لقد كان المشهد مروعاً خصوصاً بعد وصولي إلى كومة من الخراب لأتسلقها بصعوبة شديدة كي يراني المسعفون ومن على تلك الكومة بدأ لي المشهد أَكْثَــر وضوحاً وما زالت ذاكرتي تحتفظُ بمشهد شخص كان بالقُرب مني فاقداً للوعي ولا أعلم إنْ كان قد استشهد وقتَها والنيران تقتربُ منه حتى التهمته، عندها فكرت مجدّداً في إخراج الكاميرة التي لم يعد معي من أشيائي وقتها إلا هي لأوثق ذلك المشهد وبقية المشهد من حولي إلا أن شدة حرارة النيران دفعت بي إلى التراجع واتخاذ قرار مواصلة الزحف قبل أن أفقد الوعي ويصبح مصيري كمصير ذلك الشخص الذي احترق أمامي وبعد ما يقارب الثلث ساعة وأنا أحاول النجاة بنفسي اقترب مني أحد رجال الإطفاء وهو يمسك خرطوم مياه بشده ويحاول إطفاء النيران بكل شجاعة واستبسال غير مبالٍ بطيران العدوان الذي كان ما يزال محلقاً في الأجواء وفي خضم معركته مع النيران انتبه لي وأنا أشير له بيدي أنا وشخص بجواري كان قد فقد إحدى قدميه وقد كنا نحن الاثنين فقط من يتحَـرُّك وسط عشرات الجثث المتناثرة في المكان وبعد أن شاهدنا رجل الإطفاء أغلق الخرطوم وأشار لبعض المسعفين أنه ثمة مَن يطلب المساعدة في هذه الجهة وبالفعل اتّجه شخصان من المسعفين نحوي لإنقاذي بينما استمرّ ذلك الإطفائي في معركته مع النيران بينما تم إسعافي إلى المستشفى ولم أفقد وعيي إلا بعد أن قام الأطباء بتخديري وإدخالي إلى غرفة العمليات لإجراء أول عملية لي لتكون الحلقة الأولى في سلسلة العمليات الجراحية التي أجريت لي إلى أن وصلت إلى أربع عشرة عملية جراحية خرجت بعدها بإعاقة في قدمي اليسرى بعد نجاح الأطباء بفضل الله تعالى في إيقاف الالتهابات وزرع مفصل صناعي لي في الركبة ورغم مرور عامين على الحادثة إلا أن آثارها ما زالت باقية وجراحها ما زالت تنزف كما جراح الشعب اليمني بأكمله جَـرَّاءَ العدوان السعوديّ الأمريكي اللعين.
ومهما طال الوقت سنأخذ بالثأر، وعهداً نكتبه بدمائنا التي سالت في القاعة الكبرى وغيرها من المجازر بأننا لن نفرط في كرامتنا وفي وطننا وسنبذل أرواحنا في سبيل الله وفداء للوطن في مواجهة عدو غاشم لا يعرف إلا القتل ولا يهمه المكان سواءٌ أكان منزلاً أَوْ سوقاً أَوْ مدرسة أَوْ عرساً أَوْ صالة عزاء سواء بطائراته وصواريخه أَوْ بحصاره وحربه الاقتصادية.
لذلك إن كان عدونا يريد أن يُميتنا فإنّنا سنكون كما قال الشهيد القائد/ حسين بدر الدين الحوثي سنستثمر موتنا ونذهب إلى الجبهات لنسقط شهداء في سبيل الله دفاعاً عن أرضنا وعرضنا وديننا وشرفنا ولن نسمح لعدونا أن يقتلَنا مرة أُخْــرَى كما فعل في جريمة القاعة الكبرى.
وهذه قناعةُ كُـلّ جريح كُتبت له النجاة من هذه الجريمة بل إنها قناعة وإرادة كُـلّ حر في هذا الوطن الغالي الذي لن نفرّط فيه مهما كان الثمن.